التجربة الروائية لميسلون هادي

شهادة عن التجربة الروائية

ميسلون هادي
 الرواية من الفنون التركيبية التي تعتمد على طبقات عمودية يتم إشغالها أفقياً بمادة خاصة أو وجدانية، وأخرى بحثية أو خبرية أو معلوماتية، عن الشخصيات وزمانها وومكانها. وهي ليست كالشعر أو القصة القصيرة التي تحتاج الى تركيب أقل.. ولكنها مجموعة خبرات متجاورة ومتداخلة يتم التعامل معها بطريقة دقيقة بحيث تخضع للبناء الروائي الذي يحتاج إلى نظام صارم وهيكلة للفصول وفق متطلبات التسلسل الزمني للأحداث، أو التسلسل المكاني أحياناً، أو وفق أدوار الشخصيات المختلفة التي تشارك في رسم الصورة النهائية للرواية. خارطة الرواية وكل مساراتها الذاتية والموضوعية تأتي من الذاكرة الفردية الجمعية للكاتب، ومن خارجها أيضاً. بمعنى إن هناك مركزية تتشعب منها شظايا وحكايا على عالم مفتوح دائماً أمام التفسيرات حيث يكون بالإمكان الاقتراب من الحقيقة نسبياً دون الوصول إليها.
تكوين الرواية يصبح، بتراكم الخبرة، أكثر صعوبة، وليس أكثر سهولة، كما قد يعتقد بعضهم، فالكاتب يتغير ويتطور ويدرك أبعاد سجنه المترامي من حيث مركزية اللغة، وكيف تكون هذه المركزية انعكاساً لمركزيات أخرى تتشكل اجتماعياً وفق مواضعات تتراكم بمرور الزمن، مما يعني ابتعاده عن الأيمان بمعطيات خالصة، أو بوجود حقيقة موضوعية.. هذا ما جعلني أنعطف إلى السخرية في روايتيّ (حفيد البي سي سي) و(أجمل حكاية في العالم)، والأخيرة هي (رواية داخل رواية)، وتنتمي إلى الميتافكشن (ما وراء القص) أي بمعنى فحص الطبيعة الخاصة للرواية من خلال الرواية.
هيكلة الرواية بالنسبة لي هي من أصعب المراحل التي تمر بها الرواية، فبعد جمع المادة وحفظها يتم تموين ما سبق كتابته من أفكار (لاسيما الفكرة التي انبثقت منها الرواية وما حولها من متعلقات) بتلك المادة البحثية وتعزيز أفكار الشخصيات بتلويناتها الفلسفية أو المعرفية بشكل عام، ولكن يحدث أحياناً أن تخضع الرواية لأفكار مسبقة عن الشخصيات كما في روايتي (شاي العروس)، التي كان بطلها أعمى يبصر فجأة فينبهر بالعالم من حوله، ولكن هذه اللذة سرعان ما تتحول إلى كابوس عندما يتورط هذا الشاب بموقف غامض يسلب منه سعادته وراحة باله… تتوالى بعد ذلك اشتباكاته مع العالم الجديد فيجد القبح في كل مكان بدلاً من الجمال الذي رآه أول مرة.. في هذه الرواية بدأت الفكرة من بخار تصاعد من قدح شاي ساخن، فقلت لنفسي إن (ألفة) هذا البخار تقف حاجزاً بيني وبين الانبهار به كما ينبغي، ولو كنت قد رأيته لأول مرة فربما خفت منه، أو اعتقدت إنه سيترك أثراً على يدي.. من تلك الفكرة نسجت خيوطاً لم أكن أعلم كيف ستلتقي أو تحوك ثوبها النهائي، وقد تركت النهاية تنكتب على شكل ضربة أو مفاجأة تصدم القارئ، ولكني في المسودة الثانية مضيت الى نهاية أخرى مفتوحة على عدة تأويلات..
حاولت، في روايتي الجديدة (العرش والجدول)، أن تكون النهاية محددة، وغير مفتوحة على احتمالات عدة، وبقيت عدة شهور أنظر الى السطر الأخير من الرواية، وأنا لا أعرف ماذا أفعل؛ لأنه هو الذي يحدد خياراَ معيناً يمنح الراحة والبهجة للقارئ. في النهاية فرضت الشخصية إرادتها، واختارت الأمل بدلاً من اليأس. لقد استمدت(قمر) بطلة الرواية هذه الإرادة من تربة أخرى هي لا وعي الكاتب، حيث تكون هذه الشخصية قد تراكمت حولها الأفكار والصور، واكتملت بشكل منفصل عن وعي الكاتب.
أكتب الرواية عادة بثلاث مسودات على الأقل، وأحذف كثيراً أثناء المراجعة الأخيرة،  والصعوبة كل الصعوبة هي أن تعرف ماذا تحذف، وأن تكون جريئاً في الحذف… فهناك الكثير مما يتم جمعه أثناء الشروع بكتابة الرواية.. هناك المعلومات المجموعة عن طريق البحث الميداني والنظري…. هناك أمثال شعبية وخرافات وطرائف وأغان يجب وضعها في المكان المناسب.. هناك تواريخ وأسماء يجب أن تكون حاضرة في مكانها الصحيح.. هناك القصاصات التي تتعلق بتفاصيل المكان، وهذا كله يجب أن يغربَل ويوضع في ميزان تترجح فيه كفة التشويق على كفة  الدرس.
وبالنسبة لي مثلاً يشكل المكان عبئاً على انسيابية العمل. وأبذل جهداً بحثياً مضنياً من أجل الإيفاء بمتطلباته بما يتلاءم مع التفاصيل الأخرى المتعلقة بالشخصية، أو الحدث، والتي تنساب مثل تدفق النهر الجاري.. وعندما تتحرك الشخصية في بيئة معينة لا أعرفها جيداً، يشكل هذا تحدّياً كبيراً لي ويحتاج مني إلى جهد كبير لتقديم تلك البيئة بشكل دقيق، وهذا ما حدث في رواية (حفيد البي سي سي) التي تنحدر فيها الجدة الساخرة (شهرزاد) من مدينة الناصرية، وأيضاً في رواية (شاي العروس) التي تدور أحداثها بين بغداد ومدينة أمريكية…. أما إذا كانت الرواية رواية حدث كما في رواية (العالم ناقصاً واحد)، فإن التركيز يكون على مشاعر الشخصيات وتداعياتها تجاه هذا الحدث.. ولهذا جعلت مكانها الروائي هو البيت.. حيث كان البيت العراقي، بكل تفاصيله وحكاياته الشعبية، بطلاً لها وللكثير من أعمالي، ومن خلاله كنت أنقل ما يدور خارج هذا البيت من أخطار وأهوال.. وهو ما أضفت إليه تنويعات محلية كثيرة في روايات أخرى كــــ(العيون السود) و(حلم وردي فاتح اللون) و(نبوءة فرعون) و(يواقيت الأرض) و(الحدود البرية).
ولو أردنا تقديم الصورة النهائية للكتابة بفرشاة الرسم لقلنا إن القصة القصيرة تتيح للغيمة أن تمطر من تلقاء نفسها.. أما الرواية فهي هواء شديد الرطوبة يجب أن يرتطم بزجاجات كبيرة أو صغيرة حتى يتحول إلى قطرات ماء.. قطرات الماء هذه لا تتبخر بعد ذلك أبداً، وإنما تلتقي بقطرات أخرى فتسير معها وتتبعتها قطرات أخرى كثيرة، وعندما  يتوسع هذا اللقاء تتحول من قطرات إلى جدول.

 جريدة العالم 10-6-2015

الكتابة عن التجربة الروائية ؟

ميسلون هادي

الرواية هي من الفنون التركيبية التي تعتمد على طبقات عمودية يتم إشغالهاأفقياً بمادة بحثية وأخرى خبرية أو وجدانية أو معلوماتية عن الزمان والمكان.. وهي ليست كالشعر أو القصة القصيرة التي تحتاج الى تركيب أقل.. ولكنها مجموعة خبرات متجاورة ومتداخلة يتم التعامل معها بطريقة دقيقة بحيث تخضع للبناء الروائي الذي يحتاج إلى نظام صارم وهيكلة للفصول وفق متطلبات التسلسل الزمني للأحداث أو التسلسل المكاني أحياناً أو وفق أدوار الشخصيات المختلفة التي تشارك في رسم الصورة النهائية للرواية،خارطة الرواية وكل مساراتهاالذاتية والموضوعية تأتي من من الذاكرة الفردية الجمعية للكاتب ومن خارجها أيضاً،بمعنى إن هناك مركزية تتشعب منها شظايا وحكايا على عالم مفتوح دائماً أمام التفسيرات حيث يكون بالامكان الإقتراب من الحقيقة نسبياً دون الوصول إليها.

تكوين الرواية يصبح بتراكم الخبرة أكثر صعوبة وليس أكثر سهولة كما يعتقد البعض،فالكاتب يتغير ويتطور ويدرك أبعاد سجنه المترامي من حيث مركزية اللغة وكيف تكون هذه المركزية هي انعكاس لمركزيات أخرى  تتشكل اجتماعياً وفق مواضعات تتراكم بمرور الزمن، مما يعني ابتعاده عن الأيمان بمعطيات خالصة أو بوجود حقيقة موضوعية.. هذا ماجعلني أنعطف إلى السخرية في روايتي (حفيد البي سي سي) ورواية أخرى لم تنته بعدلحد الآن وهي (رواية داخل رواية) وتنتمي إلى الميتافكشن ( ماوراء القص) أي بمعنى فحص الطبيعة الخاصة للرواية من خلال الرواية.

هيكلة الرواية بالنسبة لي هي من أصعب المراحل التي تمر بها الرواية، فبعد جمع المادة وحفظها يتم تموين ما سبق كتابته من أفكار( لاسيما الفكرة التي انبثقت منها الرواية وما حولها من متعلقات) بتلك المادة البحثية وتعزيز أفكار الشخصيات بتلويناتها الفلسفية أوالمعرفية بشكل عام..

ولكن يحدث أحياناً أن تخضع الرواية لأفكار مسبقة عن الشخصيات كما في روايتي (شاي العروس) التي كان بطلها أعمى يبصر فجأة فينبهر بالعالم من حوله، ولكن هذه اللذة سرعان ما تتحول إلى كابوس عندما يتورط هذا الشاب بموقف غامض يسلب منه سعادته وراحة باله… تتوالى بعد ذلك اشتباكاته مع العالم الجديد فيجد القبح في كل مكان بدلاً من الجمال الذي رآه أول مرة .. في هذه الرواية بدأت الفكرة من بخار تصاعد من قدح شاي ساخن، فقلت لنفسي إن (ألفة) هذا البخار تقف حاجزاًبيني وبين الانبهار به كما ينبغي،ولو كنت قد رأيته لأول مرة لربما خفت منه أو اعتقدت إنه سيترك أثراً على يدي.. من تلك الفكرة نسجت خيوطاً لم أكن أعلم كيف ستلتقي أو تحوك ثوبها النهائي وقد تركت النهاية  تنكتب على شكل ضربة أو مفاجأة تصدم القارئ،ولكني في المسودة الثانية مضيت الى نهاية أخرى مفتوحة على عدة تأويلات..

أكتب الرواية عادة بثلاث مسودات على الأقل وأحذف كثيراً أثناء المراجعة الأخيرة  والصعوبة كل الصعوبة، هي أن تعرف ماذا تحذف وأن تكون جريئاً في الحذف.. أي أن تكتب بالشوكة والسكين وتمحو بالمغرفة.. فهناك الكثير مما تم جمعه أثناء الشروع بكتابة الرواية.. هناك المعلومات المجموعة عن طريق البحث الميداني والنظري…. هناك أمثال شعبية وخرافات وطرائف وأغان يجب وضعها في المكان المناسب.. هناك تواريخ وأسماء يجب أن تكون حاضرة في مكانها الصحيح.. هناك القصاصات التي تتعلق بتفاصيل المكان، وهذا كله يجب أن يغربل ويوضع في ميزان تترجح فيه كفة التشويق على كفة  الدرس.

وبالنسبة لي مثلاً يشكل المكان عبئاً على انسيابية العمل.وأبذل جهداً بحثياً مضنياً من أجل الإيفاء بمتطلباته بما يتلاءم مع التفاصيل الأخرى المتعلقة بالشخصية أو الحدث والتي تنساب مثل تدفق النهر الجاري.. وعندما تتحرك الشخصية في بيئة معينة لا أعرفها جيداً، يشكل هذا تحدياً كبيراً لي ويحتاج مني إلى جهد كبير لتقديم تلك البيئة بشكل دقيق وهذا ما حدث في رواية (حفيد البي سي سي) التي تنحدر فيها الجدة الساخرة شهرزاد من مدينة تقع جنوب بغداد هي مدينة الناصرية، وأيضاً في رواية (شاي العروس) التي تدور أحداثها بين بغداد ومدينة أمريكية…. أماإذا كانت الرواية رواية حدث كما في رواية (العالم ناقصاً واحد) فإن التركيز يكون على مشاعر الشخصيات وتداعياتها تجاه هذا الحدث.. ولهذا جعلت مكانها الروائي هو البيت.. حيث كان البيت العراقي، بكل تفاصيله وحكاياته الشعبية، بطلاً لها وللكثير من أعمالي، ومن خلاله كنت أنقل ما يدور خارج هذا البيت من أخطار وأهوال.. وهو ماأضفت اليه تنويعات محلية كثيرة في روايات أخرى كــــ(العيون السود) و(حلم وردي فاتح اللون) و(نبوءة فرعون) و(يواقيت الأرض) و(الحدود البرية).

ولو أردنا تقديم الصورة بفرشاة الرسم لقلنا بأنالرواية تبدأ من قطرة ماء قد تكون هبطت من السمـــاء أو من قمة جبل.. وقد تكون سقطت من الضباب ووجدت لنفسها مكاناً  في الوادي أو المنحدر.ولكنها لا تتبخر بعد ذلك أبداً وإنما تلتقي بقطرة أخرى فتسير معها وتتبعتها قطرات أخرى كثيرة، وعندما  يتوسع هذا اللقاء تتحول من قطرة إلى نهر.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

حوار منبر العراق الحر

القاصة والروائية العراقية الكبيرة ميسلون هادي بضيافة مقهى الماسنجر الثقافي منبر العراق الحر15-2-2025 يبقى الشيء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *