التأثير والتأثر
في ضوء نظريات الاستجابة والتلقي
مقدمة نظرية
د. نجم عبد الله كاظم
كلية العلوم والآداب/ جامعة الحسين بن طلال
“الكتاب مثل قارورة داخلها رسالة ، ألقي بها في البحر
وربما تصل أو لا تصل إلى الجهة المرسلة إليهـــا”
كارلوس فوينتسي
مع الفرق في أن القارورة تترك للصدفة والحظ وعليه قد
تصل إلى أحد أولا تصل ، أما الكتاب فيُكتب مع قصديّه
ووعي بوجود الناس الذين يجب أن يصل إليهـــم.
الباحـث
المقدمة:
لقد صار معروفا أن قارئ الأدب لم يعد متلقيا فحسب ، أو لنقل لم يعد متلقيا سلبيا يأخذ ما يُفترض أن النص ، أو المؤلف يريد إيصاله إليه ، بل هو تخطى – بقصدية أو بدونها – وضعه بوصفه متلقيا سلبيا إلى وضعه بوصفه متلقيا فاعلا. ومن هنا يكون مفهوما الاهتمام المتزايد ، خلال العقدين الأخرين بشكل خاص ، بنظريات استجابة القارئ ، والتلقـي Reader- Response and Reception Theories ، وإذا ما كان هذا الاهتمام حديثاً لدينا ، فإنه قد صار، مع هذا ، مألوفا وفاعلا على مستوى الكتابة والبحث والندوات النقدية ، بل التعليم أيضا، الذي بحكم كونه – لطبيعته وليس لتخلفه – آخر الميادين انفتاحا على الجديد ، خاصة في الجانب التنظيري .
وإذ اخترقت نظريات ومفاهيم ومقولات التلقي والقراءة صروح النقد بكل أنواعه ومناهجه وميادينه ، وبمعزل عنها أحيانا، فقد كان من الطبيعي أن يجد كل منا ، نحن الدارسين والنقاد ، وأيا كان تخصصه الدقيق واهتمامه ، نفسه معنيا بذلك . ومن هنا كانت التفاتتنا- ونحن معنيون بالأدب المقارن وبالدراسات المقارنة وبالتأثير والتأثر – إلى هذا الجانب المعرفي القديم الجديد . فربما يكون التأثير والتأثر أكثر الميادين صلاحية لتطبيق طروحات ونظريات القراءة والتلقي، ولذا تأتي ورقتنا هذه ، لا لنقول فيها أننا سنبين فيها ذلك ونحسمه بقدر ما سنطرح فيه فرضية رئيسية بشأنها مفادها : إن الأديب المتأثر ، كما هو حال كل متأثر لا يتأثر بالنص كما لو أنه كائن حيادي وموضوعي ، بقدر تأثره بقراءته هو لذلك النص ، بمعنى أنه يأخذ منه ويعطيه ، وقد يحاوره ، ليصل إلى رسالته أو معناه . والورقة تسعى للتدليل على صحة هذه المقولة أو الفرضية ، على الأقل من الناحية النظرية والمنطقية ، وليس من الناحية التطبيقية التي نأمل أن تنجح هذه الورقة في التمهيد لتحقيقها في دراسات أخرى لنا أو لغيرنا . وفي الحقيقة أننا ، وفي دراساتنا لبعض التأثيرات الأجنبية في الرواية العربية انتبهنا إلى أن الكاتب قارئا قد لا يتأثر ، حين يتأثر بالذي يقرأه ، بالنص الأصلي ذاته، بل بترجمة هذا النص ، وتحديدا حين يقرأه مترجما إلى العربية ، وبالطبع لا يمكن أن يكون النص مترجما هو ذاته بالتمام النص مكتوبا بلغته الأصلية . إن هذا بالتحديد قادنا وعبر قراءاتنا ودراساتنا النقدية ، المقارنة منها بشكل خاص ، لأعمال روائية وقصصية مختلفة ، إلى أن نكتشف أن المتأثر لا يتأثر ، في حقيقة الأمر ، بالنص ، بل بقراءته هو للنص التي قد تختلف عن قراءة سواه ،وهو ما قد يكون وراء رأي رينيه ويلك المبكر الذي يقول فيه : “عندما نرجع المرة بعد المرة إلى عمل قائلين إننا نرى فيه أشياء جديدة كل مرة ، فإننا في العادة لا تعني أننا نرى المزيد في هذه الأشياء من النوع نفسه وإنما مستويات جديدة من المعاني ، وأنماطا جديدة من الترابط.. فالعمل الأدبي الذي يظل يستحوذ على إعجابنا …لا بد أن يمتلك …خاصية تعدد المعاني والقيم”(1) . وهذا ما صرنا نعرف الآن أن القراءات المتعددة تكشف عنه ، أو بتعبير أدق ، تشترك في صنعه .
ونجد من الضروري ونحن نحدد موضوع ورقتنا ، التي تقوم على إنجازات ميدانين هما (الأدب المقارن وتحديدا التأثير والتأثر) و(نظريات التلقي والقراءة) ، أن نبين أن عنايتنا بنظريات التلقي والقراءة تأتي لا لذاتها ، بل بحدود علاقتها بالتأثير والتأثر ، وعليه فسيكون عرضنا لها عاما أكثر منه تفصيلياً .
التأثير والتأثر:
نظن من الطبيعي أن تتعدد تعريفات أو محاولات تعريف أي مفهوم أو حقل أو فرع معرفي أو جنس أدبي ما دام لا ينتمي إلى العلوم التطبيقية ، ذلك أن مثل هذه المعارف والمفاهيم والعلوم غير المعنية بالماديات تتمرد عادة على التعريف . وتبعا لذلك يكون من الطبيعي أيضا أن نتمثل تعريفات عدة ، إذا أردنا استحضار مفهوم و مصطلح (الأدب المقارن) الذي قال عنه رينيه ويلك محقا “إن اصطلاح الأدب (المقارن) متعب”(2). ولعل من المفيد أن تتوزع هذه التعريفات على زوايا نظر مختلفة تحددها طبيعة أصحابها ورؤياتهم واهتماماتهم وأزمانهم . وريما يكون الأولى بالتقديم هنا هو تعريف فان تيغيم ، كونه أول مؤرخيه ومنظريه المهمين ، الذي يرى أن (الأدب المقارن) هو ذلك الفرع من الأدب الذي يعنى بدراسة تأثير أدب في آخر أو تأثره به ، بعبارة أخرى” هو دراسة التأثيرات والتأثرات … فيتناول النتائج التي ينتهي إليها تاريخ الأدب القومي … ويضمها إلى النتائج التي انتهى إليها مؤرخو الآداب الأخرى … ويرمي إلى تكميلها وتنسيقها وضمها بعضا إلى بعض ، ويعقد فيما بينها وفوقها خيوط تاريخ أدبي أعم”(3). أما غويار فيقول موسعا المفهوم بحكم التطور الذي شهده (الأدب المقارن) خلال الزمن الذي فصله عن تيغم : “هو تاريخ العلائق الأدبية الدولية ، فالباحث المقارن يقف بين أدبين أو عدة آداب “(4) . ويكثف جوزيف شبلي ذلك أكثر فيقول انه “دراسة العلاقات المتبادلة ما بين آداب شعوب مختلفة”(5) . أما شيخ المقارنين العرب الدكتور محمد غنيمي هلال فيجمع في تعريفه التلاقي والعلاقات ، والتأثير والتأثر ، فيقول عن هذا الأدب ” إنه يدرس مواطن التلاقي في حاضرها أو في ماضيها ، وما لهذه الصلات التاريخية من تأثير أو تأثر ، أيا كانت مظاهر ذلك التأثير أو التأثر”(6) .
وإذ لا نريد هذه التعريفات لذاتها ، فإننا يمكن أن نلحظ بسهولة أن مركزيتها جميعاً تقريبا ، وكما هو شأن غالبية التعريفات الأخرى ، إنما تتمحور حول الصلات والتأثير والتأثر فأن الدراسات المقارنة تقوم أساساً على العلاقات والصلات بين الآداب القومية المختلفة وعلى ما ينشأ عنها من تأثيرات أو تأثرات . وحتى تلك المدارس التي لا تشترط هذا ، كالمدرسة الأمريكية بشكل خاص ، لا تستبعد هذا الجانب الجوهري من اهتماماتها ، بقدر ما أنها لا تشترطه حين تنتفض على تأريخية الأدب المقارن لحساب نقديته أو لنقل النصية فيه . ولا تتردد في جانبنا في القول : أننا لا نرى في الأدب المقارن الدراسات التي لا تقوم على الصلات والعلاقات وما ينشأ عنها من تأثير وتأثر ، لأسباب تتعلق بواقع اهتمام (الأدب المقارن) وفوائده ووظائفه، مما لسنا هنا في مجال بحثه . وفي كل الأحوال تنصب عنايتنا ، وبغض النظر عن الاختلاف ، والأخذ والرد في ذلك ، في التأثير والتأثر .
ولكن ماذا نعني بالتأثير والتأثر ؟ هل هو أن يلتقط الأديب القارئ مما يقرأه شيئا يضمنه في ما سيكتبه بعد ذلك ؟ أم هو أن يترك هذا الذي يقرأه شيئا منه في ذلك الذي يكتبه ؟ وكيف سنفرق إذن ، إذا كان هو كذلك ، بينه وبين التقليد ؟ نعتقد أنه ، مع وضوحه الذي ربما يصعب التعبير عنه أو التدليل عليه حسياً ، يختلط حقيقة مع مسميات واصطلاحات ومفاهيم أخرى يتقدمها التقليد الذي يدفعنا إلى أن نتذكره أو نستحضره بمجرد ذكر كلمة التأثر تحديدا ، دون أن ينتهي هذا الاختلاط بالضرورة عنده ، بل كثيرا ما يمتد إلى المسميات الأخرى التي يتداخل بعضها أحيانا مع التأثير والتأثر ، مثل التضمين والانتحال والاقتباس والمحاكاة ، وحتى السرقة.
نعتقد أن أهم ما يفرق بين التأثر وغيره من المسميات ، أو لنقل الفعاليات الإرادية وغير الإرادية ، التي قد تتداخل معه ، وخاصة التقليد والسرقة – إذ قد يسهل تحديد التضمين والاقتباس والانتحال والمحاكاة والمسميات الأخرى – هو أن التأثر إنما يتم عادة عبر القراءة والإعجاب والفهم ، وربما التأويل للعمل المقروء المتبوع بالاستيعاب والهضم وتَمَثُّل ذلك استيحاءً في الكتابة ، وبما يجعل من المؤثر رافدا ضمن روافد ومرجعيات الكاتب المتأثر ، مع ضرورة أن يكون التأثر ، الذي يُعنى به الأدب المقارن ، تأثّراً بأدب أجنبي(7) . وعليه يقول بيشوا وروسو : إن التأثير الذي عنى به الأدب المقارن هو “التحولات التي تطرأ على فكر كاتب عند اتصاله بفكر كاتب أجنبي ]و[بأنه العملية الميكانيكية الدقيقة والغامضة التي ينتج بواسطتها عمل أدبي من آخر “(8). وفي كل ذلك لا بد من أن يكون للعمل المتأثر شخصيته أو خصوصيته التي لا ينتزعها التأثر . وهذا إلى حد كبير ما يعبَّر عنه بالأصالة ، يقول محمد غنيمي هلال : “فمحور التأثر في الأدب أو الإفادة من الآداب الأخرى هو الأصالة ، أصالة الأفراد وأصالة القومية ، والخطر كل الخطر في التقليد الأعمى … وعلاقة المتأثر أو المحاكي – في هذه الحالة – ليست علاقة التابع بالمتبوع ، ولا علاقة الخاضع المسود بسيده ، بل علاقة المهتدي بنماذج فنية أو فكرية يطبعها بطابعه ، ويضفي عليها صبغة قوميته”(9).
المهم هنا ، أن التأثر والتأثير إنما يتم(10) بالطبع من خلال الكاتب المفترض تأثره ، ومن فهمه وتأويله واستيعابه لهذا الذي يقرأه . هنا نجد أنفسنا ننقاد ، ولا نقول من حيث لا نريد ، إلـى تعدد القراءات بتعدد القراء، وهو ما سنأتي إليه بشئ من التفصيل فيما بعد ، ولكننا نتـوقف هنا عند ما نعتقد أنه كان وراء الوعي بهذه التعددية . فإذ تنطبق التعددية في القراءات علـى القارئ ، لا بوصفه أديبا أو ناقدا، أو نموذجيا أو غير نموذجي على حد تعبير إيكو- لأن الأمر يتعلـق بالقراءة بشكل عام – فإن الوعي بهذا إنما انطلق من النقد وقراءة الناقد . فالمعروف أن النقد كان لقرون عديدة يركز اهتمامه على المؤلف ،منطلقا منه إلى النص ، وحتى حين كان يهتم بالنص فإنه لم يكن ليخفف من اهتمامه بالمؤلف ، بل كان هو منطلقه حتى في هذه الحالة ، كما جسد ذلك مثلا سانت بوف . ولكن في فترة متأخرة نسبيا، وتحديدا في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي ، انتقل هذا الاهتمام من المؤلف إلى النص بوصفه هو ما يجب علينا أن نعنى به، حتى في حضور المؤلف ، كما تمثل ذلك بشكل خاص لدى الشكلانيين الروس ومن تبعهم أو تفرع منهم أو التقى وإياهم في بعض رؤياتهم وفلسفتهم .. وصولا إلى البنيويين . ولكن في كل الأحوال ، ومع هيمنة النص ، لم يتم تجاوز المؤلف تجاوزا تاما إلا عند القائلين بموت المؤلف من أمثال بارت الذي قال “ما أن يبدأ المؤلف بخط حرف حتى يسجل موته” ، وبما يعني أن لا مكان للمؤلف وتأثيره في قراءة النص وتقويمه وتفسيره أو – بشكل خاص – تأويله ، ومن ثم تلقّى ما فيه أو ما يوحي به ، وهو التطرف الذي جاء باعتقادنا ردا على إستراتيجية النقد القديم ومدخله وآليته. وهكذا كانت الهيمنة لسلطة النص ، لكن هذه الهيمنة الجديدة لم تدم طويلا ، إذ سرعان ما برزت سلطة جديدة في النقد ، لم ينتبه إليها أحد من قبل ، تلك هي سلطة القارئ التي أدخل القائلون بها مفاهيم وطروحات أحدثت أو كادت تحدث انقلابا في النقد ، مثل القراءة نفسها والتلقي أو الاستقبال والاستجابة … الخ . وجوهر تلك الطروحات – وكما سنأتي إليها فيما بعد – هو أن النص لا يمتلك معنى موضوعيا ، وأن العمل الأدبي نشاط لا يتم من خلال النص ، بل هو يتم في عقل القارئ ، أو ربما عبر العلاقة الخاصة – إن صح التعبير – بين القارئ والنص ، وهكذا تعددت معاني النص الواحد بتعدد القراءات .
النص والقارئ:
إذن فالقارئ له قراءته الخاصة مهما كان نوع هذا القارئ ، ومهما كانت طبيعة قراءته .وإذا لم يكن لهذه القراءات غالبا أن يتم التعبير عنها ماديا باستثناء قراءة الناقد ، فإن هناك ما يمكن أن نسميه تعبيرا خاصا عن القراءة ، ويتمثل في قراءة القارئ حين يكون أديبا ، فيعبر عن قراءته وفهمه بشكل تأثر يظهر في ما يكتبه بعد القراءة بما يعني أن هذا التعبير لا يكون إلا عندما يمارس النص الذي يقرأه تأثيراً فيه. “وعلى كل فأساس التأثير – إن وجد- هو الاستعداد للتأثر . فأن جمهور القراء في العالمين العربي والغربي على السواء ما كان ليتحمس للرواية الروسية ، ولروايات فرانز كافكا الأسطورية الممعنة في التشاؤم بعد الحرب العالمية الثانية ، لولا تغيّر المجتمعات البشرية عامة إلى مجتمعات جماهيرية يضعف فيها شعور الفرد بقيمته المميّزة” (11) والواقع أن مثل هذا ينسحب، كما يمكن أن نستنتج بسهولة ، على ظروف الأفراد واستعداداتهم الفردية المختلفة بين الواحد والآخر .وعليه يكون من الطبيعي أن تتعدد أشكال التأثير والتأثر بتعدد القراءات . ولكن كيف تتعدد القراءات أصلا؟ هذا ما عالجته طروحات ونظريات القراءة ، القائمة على علاقة القارئ بالنص .
ولأن هذه الطروحات والنظريات تقوم أساسا على قراءة النص وتلقيه ، يكون من البديهي الانطلاق في التعرض لها من مفهوم (النص ). فماذا يعني هذا المصطلح ؟ يقول ريكور ، في أبسط وأشمل تعريفاته : “هو كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة”(12) . وإذ لا نريد أن نخوض في فلسفة النص ومداخلاته الكثيرة التي كثيرا ما تتوقف عند هذه الفلسفة ولا تتعداها إلى ما يعنيه النص وفق فلسفاته تلك لحقول التطبيق المختلفة ، فإن أول إحالة يحيلنا إليها النص وفق هذا التعريف ، وتحديدا من خلال القول إنه خطاب ، هي إلى المؤلف الذي يجب أن يكون وراءه ، ثم إلى القارئ الذي يجب أو يفترض أن يتلقاه ، ذلك “أن أي نص لا يمكن أن يوجد ما لم يكن هناك كاتب يقوم بإنتاجه وصناعته ، وبالتالي بثه في الناس ، وانتفاء الكاتب يعني انعدام النص الأدبي وغيابه”(13) . كما أننا “نكتب دائما في سبيل أن نُقرأ” ، كما يقول بوتور الذي يضيف : “وما قصدي من الكلمة التي أدونها إلا أن يقع عليها النظر ، ولو كان نظري، ففي فعل الكتابة نفسه يكمن جمهور مفروض”(14). وعليه فإزاء قول الأديب المكسيكي كارلوس فوينتسي مثلا” الكتاب مثل قارورة داخلها رسالة ، ألقي بها في البحر ، وربما تصل أو لا تصل إلى الجهة المرسلة إليها” ، نقول : مع الفرق في أن القارورة تُترك للصدفة والحظ ، وعليه فقد تصل إلى أحد أو لا تصل ، أما الكتاب فيُكتب ، ومع قصديّة ووعي بوجود الناس الذيـن يجب أن يصل إليهم ، أي القراء . لكن هذه القصدية والوعي ، أو على الأقل فاعليتهما يتم تحييدها بعد ذلك . وفي كل الأحوال يمتلك النص في ذلك استقلالية قد تكون كاملة عند بعض هؤلاء ، ونسبية عند بعض آخر . لكن المهم هنا أن اتصالا أو علاقة أو اتكاءً أو تعلقاً ينشأ مباشرا وصريحا في هذه المرحلة بعد أن يكـون قبل ذلك – من زاوية نظر معينة – موجودا بشكل غير صريح وضمني ، بطرف آخر هو القارئ، وعليه فنحن “نجد أنفسنا في هذه الحالة أمام ثنائية واضحة . فمن جهة يتمتع العمل / الكتاب ( النص) كشيء بوجوده المستقل ، ولكنه من جهة أخرى لا يجد معناه الكامل إلا عندما يصل إلى الآخرين/ القراء ويجعلهم يتفاعلون معها … ومن جراء هذه العملية فإن القراء يحققون أنفسهم كفاعليـن (وليسوا كمنفعلين) ، لهم دور يلعبونه في العمل الفني (الكتاب) ويغنونه ويطورونه” (15) ، بل من خلال هذه الصلة بين القارئ فاعلا والنص ، إنما يتحقق المعنى ، ولذا فقد تعددت المعاني بتعدد القراءات ، وتبعا لذلك يكون مفهوما قول بول فاليري قديماً : “ليس هناك معنى صحيح للنص”(16) ، وقول ناقد آخر :”ليست هناك قراءة واحدة لقطعة أدبية تستطيع أن تنتزع كل ما فيها(17) ، وقول نيتشه قبلهما : “ليست هناك حقائق ، بل تأويل فقط”(18).
إن هذا الذي صار للكثيرين حقيقة ، كان وراء بروز ما نسميها بسلطة القارئ ، عبر آراء وطروحات تبلورت بشكل نظريات أحيانا ، بشأن القراءة والتلقي لتؤدي بدورها كحصيلة نقدية أو موقف مدخلي نقدي – إن صح التعبير – إلى انتقال كبير في الهيمنة من سلطة النص إلى سلطة القارئ ، لتكون هذه السلطة القديمة في وجودها ، والجديدة في فاعليتها النقدية ، موضع اهتمام النقد نظرياً وعلمياً ، بحيث لم يعد شيئاً غير عادي أن تتعدد المداخل النقدية والتأويلات وأطر الفهم كثيرا . وهكذا “قد تستمر النصوص الأدبية بقوانينها العامة ذاتها ، وقد تبقى بعض الاستنتاجات ، مهما كانت مناهج الوصول إليها ، صالحة للكلام على هذه النصوص ، أي قد تبقى هذه الاستنتاجات مقبولة زمناً معيناً ، ولكن هذا الزمن المعيّن لا يمكنه أن يكون دهراً ، لأنه ، وبكل بساطه ، تاريخي متغيّر ومولّد” (19) . وتسهم في تغيير هذه الاستنتاجات وما تستتبعه تعدد القراءات تبعاً لتعدد استجابات القراء جماعات وأفراداً .
نظريات الاستجابة والتلقي:
ربما صار معروفا ، في حقل القراءة والتلقي ، أن هناك ما يسمى بنظرية استجابة القارئ أو نقد استجابة القارئ Reader- Response Theory ، ونظرية التلقي أو الاستقبال Reception Theory . لكي نفهم ترابطهما – كما يبدو ذلك واضحاً في الحقيقة ، ومع أنهما مجالان ضمن مجال أو حقل أكبر – يجب أن نعرف ” أن نظرية التلقي إنما هي تطبيق لنظرية استجابة القارئ” (20). والواقع نحن لا نرى بالإمكان ، حتى إذا أردنا الفصل بينهما ابتغاء الدقة النقدية، الكلام عن أي منهما دون التطرق أو – على الأقل – الإشارة إلى الأخرى ، وعليه يكون من الطبيعي أن نبدأ – ولا ننتهي – باستجابة القارئ ، أو بإحدى نظرياتها، تلك هي (القارئ في النص) ، أو نظرية (التأثير) كما يسميها أصحابها ، وعلى رأسهم فلفجانج إيزر”الذي ينبه إلى أن نظريته ليست نظرية الاستقبال التي تعنى بها مدرسة أخرى في ألمانيا ، بل هي نظرية التأثير المتبادل بين النص والقارئ . فالعمل الأدبي ليس له وجود إلا عندما يتحقق ، وهو لا يتحقق إلا من خلال القارئ . وهكذا تكون عملية القراءة هي التشكيل الجديد لواقع مشكل من قبل ، هو العمل الأدبي نفسه . وهذا الواقع المشكل في النص الأدبي ، لا وجود له في الواقع ، حيث أنه صنعة خيالية أولا وأخيرا”(21) . ولعل في هذا ما يعيدنا إلى ما قلناه من أن العمل كشيء ، يتمتع من جهة بوجود مستقل ، ومن جهة أخرى لا يجد معناه إلا عندما يصل القارئ بأن يجعله يتفاعل معه . ومقارنة بين نظرية (التأثير) والنظريات الحديثة الأخرى ، يمكن أن نقول تطبيقيا “بينما نجد النظريات النقدية الحديثة تبحث عن منهج لاستقبال القارئ للنص يتبناه القارئ من قبل أن يشرع في عملية القراءة ، نجد أن نظرية (التأثير) لا تهتم إلا بعملية القراءة ، دون الاهتمام بمنهج مسبق ، وعلى أساس أن النص لا يتم إلا من خلال حركة القراءة الواعية التي تتفاعل مع لغة النص تفاعلا كليا ، وتتحرك معها ، ولا تحيد عنـها من البداية إلى النهاية”(22) . وواضح من كلَّ ما سبق أن إيزر ، وكما هو إلى حد كبير حـال أصحاب نظريات القراءة ، يركز في القراءة على ما يراه أخذاً وعطاءً أو تبادلاً ، أو قد يعبرّ عنه بأنه تفاعل ، ويتمّ فيها – نعني القراءة – بين القارئ والنص . فترى نظرية إيزر “أن عملية القراءة تسير في اتجاهين متبادلين ، من النص إلى القارئ ، ومن القارئ إلى النص ، فبقدر ما يقدم النص إلى القارئ يضفي القارئ على النص أبعاداً جديدة قد لا يكون لها وجود في النص”(23) ، مع أننا نتحفظ قليلا هنا على تعبير “قد لا يكون لها وجود في النص، لما قد توحي به من أن لا يكون لما تخرج به قراءة النص علاقة فعلية بالنص ، في وقت لا نرى فيه إمكانية مثل هذا . بعبارة أخرى لا نرى إمكانية أن نقول ، قراءً أو نقادا ، عن النص ما ليس فيه أو يوحي به أو على الأقل ، يشترك في تحقيقه وهو ما ينطوي عليه رأي أيزر هذا ، بغض النظر عما إذا كان قد عناه فعلاً أم لم يكن . ولعل تعبير رامـان سلـدن عن ذلك أقرب إلى الدقة والقبول إذ يقول : “من منظور النقد المتجه إلى القارئ … إن المعنى في النص لا يصوغ ذاته أبدا ، بل على القارئ أن يحفر في المادة النصية لكي ينتج المعنى” (24) ، مع ملاحظة أهمية كلمة (ينتج) هنا التي لا تساوي تعبير “يضفي القارئ على النص أبعادا جديدة ، قد لا يكون لها وجود في النص” ، كما لا تساوي تعبير “يستخرج من النص” التي قد يقول فيها أكثر النقاد حداثة السابقين على نقاد القراءة .”ويزعم ولفجانج أيزر أن النصوص الأدبية تحتوى دائما على (فراغات) يمكن أن يملأها القارئ وحده”(25) ، لتسير القراءة بذلك في اتجاهيها اللذين قال بهما إيزر ، من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص ، “ومن ثم تكون عملية القراءة هي التشكيل الجديد لواقع مشكل من قبل هو العمل الأدبي نفسه … وعندئذ تنصب عملية القراءة على كيفية معالجة هذا التشكيل المحول من الواقع ، وتتحرك على مستويات مختلفة عن الواقع : واقع الحياة ، وواقع النص ، وواقع القارئ ، ثم أخيرا” واقع جديد لا يتكون إلا من خلال التلاحم الشديد بين النص والقارئ” (26) . ومهم هنا أن هذا (التشكيل الجديد لواقع مشكّل) إنما يتم بمشاركة فاعلة من القارئ ، كما هو واضح في طروحات النظرية ، وعليه فمنطقي أن يكون لشخصية القارئ وخلفيته وثقافته وتذوّقه دور في ذلك ، وهي أمور تختلف بالطبع من فرد إلى آخر ، أي من قارئ إلى آخر . لذا لنا أن نتوقع اختلاف القراءات واختلاف المعاني للنص الواحد .
ونظرية أيزر تتجاوز طروحات نظرية الاستقبال حول ما يسمى بأفق التوقعات .. “التي تتحدد بتوقعات القارئ لحظة استقباله للعمل الأدبي ، وهي التوقعات الثقافية والفنية والأخلاقية التي تتكون لدى القراء في ظروف تاريخية محددة ، فإذا كان القارئ معايشاً لظروف العمل الأدبي ،اقترب أفق التوقعات من هذا العمل”(27) . والتجاور يكمن تحديدا في أن نظرية التأثير لا تريد للقارئ أن يبتعد عن النص بكافة الأحوال ، “وهي تلغي تثبيت المعنى”(28) . كما أن نظرية أيزر تقول بدخول القارئ فاعلاً ، وليس بأن لا يبتعد عن النص فقط ، والفرق بين القولين واضح وهذا إنما يتم عن طريق ملء ما يسمى بالفراغات أو الفجوات. ” وفي نظرية أيزر يسيطر النص الأدبي جزئيا ، بوصفه نتاجا لأفعال الكاتب القصدية ، على استجابات القارئ ، ولكنه يحتوى دائما على عدد من “الفجوات” أو “العناصر غير المحددة” . ويجب على القارئ أن يملأ هذه ذاتيا بطريق المشاركة الخلاقة مع ما هو معطى في النص الذي أمامه”(29) ، وبما يعني أن العمل الأدبي إذ يعتمد في تحقيقه على النص والقارئ ، فإن معناه لا بد أن يتعدد بتعدد القراء ، أو بالأحرى بتعدد القراءات .
أما نظرية التلقي التي طرحها هانس روبرت ياوس ، “فإنها تركز على تلقي النص الأدبي ، إلا أن اهتمامها لا ينصب على استجابة قارئ فرد في وقت معين ، ولكن على الاستجابات المقيَّمة ، للجمهور القارئ عامة للنص أو النصوص نفسها على امتداد زمنه . و يطرح ياوس الرأي بأن النص لا يملك (معنى موضوعياً) ، ولكنه يحتوى فقط على بعض الخصائص التي يمكن وصفها بصورة موضوعية . واستجابة القارئ … هي النتاج المشترك لـ(أفقه) هو الخاص من التوقعات اللغوية والجمالية” (30) . ولما كان هذا الأفق خاصا بقارئ مـا ، على حد تعبيره ، فقد كان من الطبيعي أن تتعدد معاني العمل بتعدد القراء اعتمادا علـى تعدد آفاق توقعاتهم ، ولكن “وفي رأي ياوس ، فإن من الخطأ أيضا القول بأن العمل كلـي شامل ، وأن معناه ثابت أبدا” ومنفتح على كل القراء وفي أي حقبة . ويعني هذا بالطبع أننـا لن نستطيع تتبع الآفاق المتلاحقة التي قر بها العمل منذ زمن ظهوره حتى الوقـت الحاضر وبالتالي فلن نستطيع استخلاص قيمة العمل الأخيرة ، أو معناه النهائي ، لأن ذلك يعنـي تجاهل وضعنا التاريخي الخاص”(31) . وتبعا لذلك فإن معنى العمل وقيمته تبقيان ، مـن جهة موجودتين عند قراء حقبة تاريخية بعينها ، وتبقيان من جهة أخرى في طور الكشف عنها على يد قراء حقبة تاريخية أخرى ، ذلك أن “كل نوع مختلف من الجمهور أو القراء يفرض إستراتيجية مختلفة من التأويل ، وهذا بأي حال يلمح إلى أن معنى النص يختلف من عصر إلى عصر ، أو إلى أن أي شخص يكون قد فعل كل ما يقتضي فهم ذلك المعنى ، يفهم معنى مختلفا عن سابقيه أو عن عصر سابق”(32).
نعتقد أن الانتقال من ياوس ، ومن قبله كبير منظري استجابة القارئ أيزر ، إلى آخرين ، مثل فيش ، لن يضيف الكثير إلى ما يفيدنا في موضوعنا . وهكذا بتأمل النص وما يعنيه ، وفي ضوء مقولات الاستجابة والتلقي نجد أن لكل نص بعدا فرديا وبعدا اجتماعيا ، لعل لهما كليا أو جزئيا علاقة بما رأيناها ثنائيات في النص : الاستقلالية وللاستقلالية ، المؤلف والنص ، النـص والقارئ ، الذاتية والموضوعية … “تتكوكب العلاقة بين الفردي والجماعي ، بين الذاتي والكوني ، بين المتخيل والواقعي المادي .. بين المستويات على اختلافها ، وبين ما هو في هذه المستويات حركة صراعية تنمو مع الزمن .. وتستمر العلاقة ، في كمالها ونقصانها ، بين المتخيل والواقع المادي ، بين زمن الكتابة وزمن المعاش ، بين حركة الفكر في إنتاجها زمن الكتابة وبينها في إنتاجها فهماً بهذا الزمن ، بين الفكر في ممارسة المعاش وبينه في إنتاج معرفة بما يمارس”(33) . وعموما تدخل كل هذه في توجيه القراءة من جهة، وفي منح القارئ سلطة الفعل في النص من جهة ثانية . ولكن كيف يكون للبعد الفردي أو الذاتي والبعد الاجتماعي أو الموضوعي تحديدا دورهما أو أدوارهما في تحقيق النص وصنع معناه مما قد يكون الوجه الأخر للتأويل ؟
نعتقد أن ينطوي النص على البعد الاجتماعي يعني ضمنا ، وبدرجة أو بأخرى ، حضور القارئ فيه حتى قبل القراءة ، إذا ما اتفقنا على أن القارئ بشكل أو بآخر – وأحيانا حتى حين يختلف زمنا التأليف والقراءة – هو جزء من ذلك البعد ، خاصة حين يتصوّره المؤلف قبل الكتابة وأثناءها . أما البعد الفردي فهو ما يفرضه المؤلف على القارئ، وعبره على القراءة من خلال النص أثناء الكتابة . ولعل هذا إضافة إلى رؤية النص على أنه وجود مستقل، قد قاد النقد النصي إلى التأكيد على ما في النص وليس على ما هو خارجه ، وعلى ما يوحي به النص و الذي قد يبدو خارجه مما يلعب دورا في تأويلة . ولا نظن أن هذا يتناقص مع رأي أيزر – كما يبدو في الظاهر- إن لم نقل إنه في الواقع ، يلتقي معه ، حين ” يبين أن فعل القراءة لا يستطيع أن يقاوم عنصرين رئيسين هما، و إن كانا موجودين في النص ، فإن استخلاصهما يتم على نحو أو آخر وفقاً لأيدلوجية القارئ ، أو على الأقل تبعا لوجهة نظرة ، أعني للخلفية الاجتماعية ، ولبناء النص ” ، ويستدرك قائلا ” و لا أعني بذلك أن القارئ يأتي بشئ من الخارج ليضعه في النص .. ولكني أعني أن القارئ لا يستطيع على كل حال أن يقاوم انغماسة ، بطريقة أو بأخرى ، في اكتشاف الواقع “( 34).
تعددية القراءة ، والتأثير والتأثر
إن هذا في الواقع ما نعتقد بضرورة وضعه في البال وحين نبحث تطبيقياً في التأثير والتأثر ، مما قد يبدو جزئيا متعارضا – وما لا نعتقد أنه كذلك – مع القول بهيمنة سلطة القارئ. كيف؟
إن القارئ أديباً يتأثر – حين يتأثر – بما في النص وبما يوحي به وربما بالمؤلف من خلال النص ، بل أحيانا حتى قبل دخوله إليه قراءة ، نعنى حين يحضر هذا المؤلف بما هو معروف عنه قبل القراءة وأثناءها . ولكن ذلك كله إنما يكون ضمن قراءة لها خصوصيتها المتكونة من ذات القارئ ومرجعياته ، ومن ثم رؤيته المتبلورة من ذلك كله لهذا الذي يراه في النص ، وبما لا يعني بالنتيجة أنه سيتأثر بالنص مستقلا ، بل بالنص مقروءا ومؤوَّلاً من القارئ نفسه بفاعلية كل تلك العناصر . أي أن القراءة تلعب الدور الأساسي في التأثير الذي يمارسه العمل الأدبي – ولا نقول النص – في الأديب القارئ . فإذا كان قد أصبح مفهوما أن قراءة الإبداع هي عملية خلق أو جزء من عملية الخلق الإبداعي ، وبالتالي فهي تشترك بشكل جوهري في تحديد حدود النص وطبيعته وعطائه أو قيمته ، أو لنقل معناه ، فإن من الطبيعي لنا أن نتوقع اختلاف التأثر بالنص الواحد وتبعا لاختلاف القراءات وتعددها ولما تقود إليه من تعدد المعالجة والتأويلات .
هكذا يكون من الطبيعي ما نراه من تعدد التأثرات بنصوص بعينها ، خاصة حين تكون تلك النصوص المؤثرة لها خصوصيتها التي تكشف عنها القراءات المتعددة ، والمتمثلة في أنها غنية في تنوع أوجهها أو ربما جاز لنا استعارة التعبير العربي القديم والقول أنها حمالة أوجه ، مع عمق وديمومة قدرتها على العطاء . وهذا ما ينطبق على نتاج أدباء كثيرين ، من أبرزهم فرانز كافكا ، وإلى حد ما فيدور دستويفسكي ، وتي. إيس .البوت ، ووليم فوكنر … وغيرهم ، ممن هم في الوقت نفسه من أكثر الأدباء – أو كانوا من أكثر الأدباء – انتشاراً في الوطن العربي ، الأمر الذي يجعلهم نماذج تطبيقية مناسبة لهذا الذي طرحته ورقتنا . فحين مارس كافكا مثلاً تأثيراته في جيل أدبي عربي كامل تقريباً ، لم تكن تأثيراته تلك واحدة أو متشابهة في أعمال كل الأدباء العرب المتأثرين بل تنوعت بتنوع قراءاتهم وفهمهم وتأويلاتهم . فكان تمثَّل جورج سالم مثلاً لفكرة ( الارتماء) الوجودية الكافكوية في روايته ” في المنفى” ، بينما صبغ الإحساس بالاضطهـاد الذي ركب جل أبطال كافكا ، بطلي محيي الدين زنكنه في روايتيه ” ويبقى الحب علامة ” و” بحثاً عن مدينة أخرى” . أما جبرا إبراهيم جبرا فهو في روايته ” الغرف الأخرى” ، رأى وأخذ العالم الكافكوي بتفصيليته شبه الواقعية والمؤطرة بإطارها الخلفي ليضع فيه بطله وسط حيرة كافكوية . وهذا الذي قلناه عن تأثيرات كافكا يمكن أن يقال عن تأثيرات فوكنز ، خاصة من خلال روايته الشهيرة ” الصخب والعنف” . فاذا لم يرَ غسان كنفاني فيه إلاّ ذلك التشخيص للزمن فكتب روايته ” ما تبقى لكم” انطلاقاً – من الناحية الفنية- من هذه الرؤية ، رأي غائب طعمة فرمان ؟ ازمة رواية فوكنز أزمة عائلة ، وكانت لدى فؤاد التكرلي أزمة وجود.
الأمر نفسه يمكن أن يقال عن أدباء مؤثرين آخرين . فبالتأكيد أن تأثيرات تي. ايس. اليوت في السياب ، أو غير تأثيره في عبد الصبور ، أو البياتي ؛ وتأثيرات دستويفسكي في جبرا هي غير تأثيراته في محفوظ .. وهكذا .
هنا يمكن أن نلاحظ أن القراءات تختلف بالطبع ، وتبعاً لذلك تختلف التأثيرات ، بين الأدباء حتى حين يكون هذا الذي يلاحظونه في الأعمال التي يقرؤونها ، ويؤولونه ، واحداً . وهذا يقودنا إلى أن نقول أخيراً ، وكنتيجة ، بأن ما ندّعيه ، خاصة في الجانب التطبيقي ، أنما هو عملية معقّدة ، وتحديداً في جانبها القرائي ، ذلك أننا حين نقول ما نقوله ، سواء أكان ذلك عن الأدباء المؤثرين ، أم عمن نزعم تأثرهم بهم من الأدباء العرب ، فإننا نقوم بقراءة قراءات الأدباء المتأثرين للأعمال المفترض تأثيرهم فيهم ، منعكسة في أعمالهم . وعليه ومن منطلق نظريات القراءة ومفاهيمها وتعدديتها ، فقد تتفق قراءة قارئ ورقتنا معها وقد لا تتفق ،، فهي أولاً وأخيراً قراءة.
الهوامش :
1- رينية ويلك، مفاهيم نقدية ، ترجمة د. محمد عصفور ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ،1987، ص 483.
2- رينية ويلك و اوستن وارين ، نظرية الأدب ، ترجمة محيى الدين صبحي وحسام الخطيب، ص 57.
3- فان تيغم ، الأدب المقارن ، دار الفكر العربي ، ص 16-17.
4- م.ف.غويار ، الأدب المقارن ، ترجمة د. محمد غلاب ، القاهرة 1956، ص
5- Joseph T. Shiply, Docticinary of World Literary Terms, London, 1979,p 601
6- د. محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن ، دار الثقافة ودار العودة، بيروت ، ص9.
7- نقول هذا انطلاقاً من مفهوم المدرسة الفرنسية للأدب المقارن بالطبع .
8- كلود بيشوا وأندرية ميشل روسو ، الأدب المقارن ، ترجمة رجاء عبد النعيم جبر ، الكويت ،1980، ص 78.
9-د. محمد غنيمي هلال ، مصدر سابق ، ص 106.
10-نعمد غالبا إلى التكلم عن التأثير والتأثر بصيغة المفرد ، كونهما عملية واحدة كما هو واضح .
11- مجدي وهبه ، الأدب المقارن ، مكتبة لبنان والشركة المصرية للتأليف والنشر -لونغمان ، القاهرة ، 1991، ص 17.
12-بول ريكور : النص والتأويل ، ترجمة منصف عبد الحق ، مجلة (العرب والفكر العالمي ) ، ع3 ، 1988.
13-د. حسين خمري، بنية الخطاب النقدي.. دراسة نقدية ،دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1990، ص 100.
14-ميشل بوتور، بحوث في الرواية الجديدة ، ترجمة فريد انطونيوس، منشورات عويدات، بيروت ، 1982، ص87.
15- د.جمال شحيد ، في البنيوية التركيبية ” دراسة في منهج لوسيان غولدمان ، دار ابن رشد ، بيروت ، 1982، ص 87.
16-امبرتو ايكو ، القارئ النموذجي ، ترجمة أحمد بو حسن ، مجلة (أفاق) ، الرباط ، ع8-9، 1988، ص140.
17- Wilfred L. Guerin and others, A Handbook of A approaches to literature, U. S. A. 1979, p242
18- Susan Sontage , Against Interpretation , In : David Lodge(Ed.): 20th Century Literary Criticism , London & New York , 1972, p654. Also see p660.
19- يمنى العيد ، في معرفة النص ، دار الآفاق الجديدة و دار الثقافة، بيروت والدار البيضاء ، 1984 ، ص 17.
20- M.H. Abrams, A Glossary of Literary Terms, U.S.A, 1981,p155.
21-نبيلة ابراهيم ، القارئ في النص” نظرية التأثير والاتصال” مجلة (فصول ) القاهرة ، ع1، م5 ،1984، ص 101.
22-المصدر السابق ، ص 102. والواقع أن هذا يرجعنا إلى الأساس الفلسفي الذي انبثقت منه نظرية التأثير والاتصال ، كما يؤكد ايرز نفسه ، وهو الفلسفة الظواهرية، “وخلاصـة القول أن الظواهرية ترفض الافتراض المسبق عند الدخول في علاقات الأشياء ، كما أنها ترفض فرض أي منهج يؤدي إلى تثبيت الشيء، ويعطل الحركة الدينامية للبحث والاكتشاف” . المصدر السابق.
23-المصدر السابق ، ص 101-102.
24-رامان سلدن، نقد استجابة القارئ .. نقاده ونظرياته ، ترجمة سعيد الغانمي ، مجلة (آفاق عربية) ، بغداد ، ع 8 ، 1994، ص 32.
25-المصدر السابق ،ص 32.
26-نبيلة إبراهيم ، مصدر سابق ، ص 102.
27-المصدر السابق.
28-المصدر السابق.
29-Abrams, op. cit. P47
30- Ibid, p155.
31-سلدن: مصدر سابق، ص 34.
32- E.D. Hirsch, Validity in Interpretation , New Haven and ,
London, 1967, p137.
33- يمنى العيد ، مصدر سابق ، ص 14.
34- نبيلة ابراهيم ، مصدر سابق، ص 104.
المصادر والمراجع:
(أ) العربية والمترجمة إلى العربية:
ابراهيم ، نبيلة : القارئ في النص ” نظرية التأثير والاتصال” ، مجلة (فصول ) القاهرة ، ع1 ، م5 ، 1984.
ايكو ، أمبرتو: القارئ النموذجي ، ترجمة أحمد أبو حسن ، مجلة (آفاق) ، الرباط، ع 8-9،1988.
بوتور، ميشل: بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد انطونيوس ، بيروت ، منشورات عويدات،1982.
بيشوا ، كلود واندرية ميشل روسو : الأدب المقارن ، ترجمة رجاء عبد المنعم جبر، الكويت ،1980.
تيغيم ، فان : الأدب المقارن ، ترجمة (بدون) ، دار الفكر العربي،(د.ت).
خمري ،د.حسين: بنية الخطاب النقدي . دراسة نقدية ، بغداد، دار الشؤون الثقافية ،1990.
ريكور،بول : النص والتأويل، ترجمة منصف عبد الحق ، مجلة (العرب والفكر العالمي)، ع3، 1988.
سلدن ، رامان : نقد استجابة القارئ.. نقادة ونظرياته ، ترجمة سعيد الغانمي ، مجلة (آفاق عربية)، بغداد ،ع8،1984.
شحيد ، د.جمال : في البنيوية التركيبية .. دراسة في منهج لوسيان غولدمان ، بيروت، دار ابن رشد ، 1982.
العيد ، يمنى : في معرفة النّص ، بيروت ، دار الآفاق الجديدة ، دار الثقافة ، الدار البيضاء 1984.
غارودي ، روجيه: واقعية بلا ضفاف، ترجمة حليم طوسون ، القاهرة، دار الكاتب العربي،1968.
كاظم ، د. نجم عبدالله: الرواية في العراق 1965-1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها ، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة ، 1987.
هلال ، محمد غنيمي : الأدب المقارن ، دار الثقافة ودار العودة ، بيروت (د.ت) .
وهبة ، مجدي : الأدب المقارن ، مكتبة لبنان والشركة المصرية العالمية للنشر -لونكمان ، القاهرة ، 1991.
ويلك، رينيه :” مفاهيم نقدية ، ترجمة د.محمد عصفور، الكويت،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،1987.
ب_ الإنجليزية:
Abrams, M. H.: A Glossary of Literary Terms, U.S.A,1981.
Guerin, and Others : A Handbook of Critical Approaches to literature, Harber & Row publishers, U. S.A., 1979.
Lodge , David (Ed.) : 20th Century Criticism -A Reader ,London & New York , 1972
Shiply , Joseph: Dictionary of World literary Terms, London, 1979.