الإبداع لا تغيّبه النظم السياسية
غائب طعمة فرمان وآخرون ووهم الظلم
د. نجم عبدالله كاظم
أتذكر أنه في منتصف السبعينات أثارت جهة معينة معروفة قضيةً حاولتْ أن تخلق فيها ضجة من موضوع لم يمتلك صلاحية أن يكون مثل هكذا قضية. فالمعروف أن دور النشر في وزارة الثقافة والإعلام كانت تتّبع حينها تعليمات أو سياسةً تتمثل في اعتماد العربية الفصحى فقط لغةً لمنشوراتها، واستبعاد العامية تماماً من ذلك، مع عدم منع دور النشر الخاصة من نشر المطبوعات التي تستخدمها. في ضوء هذه السياسة أو التعليمات كانت دور النشر الرسمية ترفض أعمالاً حين تكون هي أو أجزاءٌ رئيسة منها بالعامية. وعودةً إلى الجهات المعينة المعروفة التي أشرنا إليها حدث أن رفضت دائرة النشر في وزارة الثقافة والإعلام نشر رواية “رباعية” شمران الياسري (أبو كاطع) بسبب كتابة حواراتها بالعامية، خصوصاً أن الرباعية كادت تكون حوارية، مع عدم طعن أحد من دائرة النشر، بحدود علمنا، فيها فنياً. لكن تلك الجهة الخاصة التي كان الكاتب ينتمي إليها أو يُحسب عليها لم تُردْ أن تقتنع، فراحت تدّعي أنّ وراء ذلك الاعتذار والرفض لنشر الرواية أسباباً سياسية وليست العامية.
ومع أننا هنا، وكما كنا في وقتها، لا نتفق مع تشدّد الوزارة أو دائرة النشر فيها في هذا الأمر، نقول إن تلك الجهة لم تكن محقة بإلباس القضية لباساً سياسياً، لأنها ببساطة لم تكن كذلك ، وكان الأمر سيكون معقولاً لو أن تلك الجهة المعروفة هاجمت سياسة الوزارة في تعاملها مع موضوع العامية في الأدب ومناقشتها بدل الادعاء بأن وراء عدم النشر موقفاً سياسياً من الكاتب ومن الجهة السياسية التي وراءه، فذلك من حقها. لكنها بدلاً من ذلك استجابت للأجواء التي كانت قد أخذت تتلبد بالغيوم في سماء الواقع السياسي العراقي ولأسباب نعرفها جميعاً، ولعلها وجدت أن في الطريقة التي تناولت بها القضية ما يثير من تريد إثارتهم. فمع أن الأساس في تفسير الأحداث والأفعال والمواقف وتعليل وقوعها أو حدوثها أو اتخاذها هو الانطلاق مما نظنه صحيحاً، فإننا كثيراً ما نفعل ذلك انطلاقاً مما يخدمنا، أو مما يصب في ضرب الآخر، وهذا برأينا ما كان وراء تلك الزوبعة.
نستذكر هذه الحادثة والقضية المثارة في ضوئها، في ظل ظاهرة شاعت هذه الأيام في الحياة، وتسللت بقوة إلى الحياة الثقافية لتشد انتباهنا. تتمثل هذه الظاهرة في تطرّف البعض في إرجاع كل سلبيات هذه الحياة إلى النظام السابق أو مؤسسات العهد السابق وأجوائه، وربما أناسه، إما جهلاً أو رغبةً في قذف ذلك النظام وعهده، بكل ما يقع في أيديهم، أو يخطر في بالهم. وبالطبع لذلك مبررات، قد تعود فعلاً إلى ما وقع على ذلك البعض وعلى من تمسهم تلك السلبيات، من ظلم النظام السابق. ولكن كان يمكن لذلك، وربما بعد التجرد من بعض المعتقدات والميول، أن يكون مفهوماً ومقبولاً، لو أن أمر التعليل واللوم وتحميل النظام المسؤولية قد اقتصر على عالم السياسة والسياسيين الذي لم يكن يوماً نظيفاً أو عادلاً أو، في الأقل، مثالياً، لا في زمان النظام السابق، ولا في هذا الزمان، ولا وفي أي زمان آخر، ولا في أي مكان آخر. لكن الأمر تعدى عالم السياسة والسياسيين هذا إلى المجتمع والاقتصاد والسوق والجامعة والثقافة. وتعلقاً بالثقافة تحديداً صرنا كثيراً ما نسمع أو نقرأ سبّ ثقافة عقود من العطاء والكتابة والإبداع، لا لسبب حقيقي غير انتمائها لا إلى النظام السابق، بل إلى زمن النظام السابق، فهذا على ما يبدو كاف لمثل هؤلاء لرفضه، حتى بتنا نخاف على أولادنا وتربيتهم وشهاداتهم من أن لا يُعترف لأنهم وُلدوا وتربّوا وحلوا على شهاداتهم في ذلك الزمن . وهكذا وجدنا من يصف تلك الثقافة وعطاءاتها، وهو يضعها في سلة واحدة، بخلاف كل علمية وأكادمية ومنهجية نقدية، بالعقم والرداءة … إلخ، وفي أفضل الأحوال بثقافة السلطة والقمع، وهو لا يعي، وربما لا يعي، أن ذلك يقود بالضرورة إلى ظلم كُتّاب، كان بعضهم موالياً للنظام، وما كان لبعض آخر مواقف منه، بل كان لبعض ثالث مواقف معادية أو غير متوافقة، صراحةً أو ضمناً، منه. وهنا يجب أن نكون أمينين وشجعاناً وموضوعيين لنقول، لا دفاعاًعن نظام عُرف بقمعه وسلطويته وتفرّده، إنه ليس وراء الكثير مما يدعي البعض أنه وراءه، سواء أكان هذا الادعاء صادقاً، ولكنه غير دقيق، أم متكلّفاً ومتعمَّداً فيه الإساءة فقط لكل ما يعود إلى زمن النظام، لا إلى النظام ذاته. والأمر نفسه ينطبق على ما يدّعيه البعض من إهمال مؤسسات ذلك العهد لأدباء تبعاً لمواقفهم السياسية. فإذا كان بعض ما يقال من مواقف النظام من أدباء بعينهم صحيحاً كما هو الأمر مع مظفر النواب مثلاً، فلا نظن أي نظام من أنظمة العالم الثالث غير الديمقراطية كان سيسمح بمجرد ترديد اسم شاعر مثل النواب، والجميع يعرف لماذا؟ أما غير النواب وربما أديب أو اثنين آخرين، فلا نظن أن ما يُقال عن الحيف الذي لحقهم بدقيق.
لنضرب، في نهاية مقالنا، مثالاً على ما نقول. ففي مقالات ليست قليلة تنشرها الصحف والمجلات، يشير أصحابها إلى ما لحق غائب طعمة فرمان وأدبه من حيف، وقلة دراسة في ظل النظام السابق، بسبب اتجاهه السياسي والفكري، وموقف النظام السلبي والمعادي، في ظل ذلك، منه. والواقع أن مثل هذا ليس مقتصراً على ما يُكتب اليوم، ولا على ما شهدناه في مثال “رباعية” أبو كاطع, فمما يربط هذا بذاك، وتعلقاً بغائب طعمة فرمان، نستحضر هنا ما قاله د. أحمد النعمان في مقدمة كتابه “غائب طعمة فران.. أدب المنفى والحنين إلى الوطن”- الصادر في دمشق بعد وفاته سنة 1996- في هذا السياق، وتفنيدنا له. فهو يقول: “أتصدقون بأنه خلال فترة الحكم الحالي ومنذ أواخر الستينات وحتى رحيله عنّا، لم أعثر في الصحافة العراقية على شيء يُذكر في أدب غائب طعمة فرمان، وكان ذلك تعتيماً من (الأعلى) فيما كانت تلك المجلات وحتى (المرموقة) منها تمجد (كُتّاب القصر)…”. والمراجع اليوم للصحف والمجلات التي يشير إليها النعمان، وللجامعات العراقية ودور النشر، يكتشف خلاف ذلك. وهو إن لم يكن بمستوى عملقة فرمان، فلا نظن أن أيّاً من أدبائنا العمالقة الآخرين قد حصلوا على ما يستحقون من عناية ونقد ودراسة. فيكفي أن نشير مثلاً إلى أن ما نشر عن الكاتب الكبير في الصحف والمجلات التي يشير إليها النعمان يقارب العشر لقاءات وحوارات، وأكثر من ست دراسات ومقالات، كما كُتبت عنه في الجامعات العراقية أو من طلبة مبعوثين ما لا يقل عن ثلاث أطاريح، إحداها للمتكلم، مما يعني لا أنه نال ما يستحقه، لأنه لم ينل كما لم ينل غيره من أدبائنا ما يستحقون، بل عدم وجود مانع رسمي لتناوله. وهنا استذكر أنني، في إجازتي الدراسية التي حصلت عليها من وزارة الثقافة والإعلام، في بداية الثمانينيات، قمت وعلى حساب تلك الوزارة لا بهذه الدراسة فقط، بل أيضاً بالسفر إلى موسكو وإجراء حوار طويل مع الأديب الراحل، نشرته ملحقاً في رسالتي وبعد ذلك في الكتاب المعدّ عنها الذي نشرته دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد في سنة 1987. أفلا يعني أن أولئك الذي يُرجعون كل ظاهرة سلبية، وكل تقصير بحق أحد من أدبائنا، إلى النظام السابق، مبالغون؟
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …