أكاديمية نجوم القرن العشرين
ميسلون هادي
ثمة كتاب جيد تبحث عنه في معرض دولي للكتاب ولا تجده .. وثمة كتاب جيد آخر يصلك وأنت جالس في غرفة مظلمة والقصف شديد فتجعلك المصادفة البحتة تقرأه، لتكتشف بعد تقلبك ربع قرن من الزمان بين الكتابة والقراءة،. إن ثمة روائيين عرباً سمعت بأسمائهم ولكن لم تقرأ لهم وكيف تقرأ لهم ، وكلما دار الزمان دورة جديدة إلى أمام أمعن الإعلام العربي سامحه الله، في تجاهل الأدب والأدباء وضاع الكتاب الأدبي بين السياسة والفن، وأصبح كالجزيرة المعزولة عن قارات الرقص والطرب وربما لا يتم العثور عليه في ذاكرة الأجيال الجديدة لولا المعلومات الواردة في الكتب المنهجية عن كلاسيكيات الأدب العربي، وهي كما نعلم مادة إخبارية تقليدية لا تكفي أغلبها لإحداث التفاعل المطلوب بين مادة الأدب وعقول الشباب فيصبح الابن المضلل الذي لا تستهويه السياسة صيدا سهلا لبرامج الأغاني الهاتفية والرسائل الالكترونية واتصالات القمار في الفضائيات الجديدة .
إن الذي أثار في البال كل هذه التداعيات هو قراءتي رواية (شقة الحرية) لمؤلفها الدكتور غازي القصيبي وهذه الرواية وان كانت قد كتبت، من حيث الشكل بطريقة تقليدية لكنها تنطوي من حيث المضمون على أهمية استثنائية كونها قدمت لنا صورة شاملة عن المجتمع العربي في نهاية الخمسينات وبداية الستينات جسدها مجموعة من الطلاب العرب تدرس في كلية الحقوق بجامعة القاهرة فيتعرف القارئ الذي لم يكن قد ولد بعد حينها ومن خلال تلك المجموعة على الميول والاتجاهات السياسية التي سادت وتصارعت آنذاك ويعيش أفكار ومشاعر وعواطف ذلك العصر الرومانسي كما لو كان بطلا من أبطاله أو كما يتمنى لو كان بطلا من أبطاله خصوصا وان المكان الذي تدور فيه هذه الآراء والأفكار والعواطف هو القاهرة أم الدنيا وحاضرة السياسة وعاصمة الفن والثقافة العربية. ميزة مثل هذه الأعمال أنها تقدم تاريخاً حديثاً بشكل سينمائي مشوق يغني عن كتاب منهجي ممل في موضوع مماثل قد يقدم الأيديولوجيات بأحكام مسبقة وينحاز لواحدة منها على حساب الأخرى خلافا لحركة الزمن في مجتمع معين ومكان محدد. وهذه الرواية قدمت الكثير من الأفكار والنظريات التي تبنتها المجتمعات العربية وعزفت على أوتارها مدارس فكرية مختلفة إبان عقدي الخمسينيات والستينيات وفي النهاية حالها حال المجتمعات العربية تنقطع الأصوات عن بعضها بعضاً وتتجافى ولاتتلاقى إلا لكي تفترق، إلا أن بيت القصيد فيما تقوله تلك الرواية الآن هو تلك المقارنة التي تفرض نفسها بين جيل من الشباب العربي عاش تلك الفترة المضطربة من تاريخ الوطن العربي وجيل آخر يعيش فترة ساخنة لا تقل اضطرابا عن الأولى هي الفترة الراهنة.
إن وجود مجموعة من الشباب العربي في (شقة الحرية) يجعلها شبيهة بأكاديمية للنجوم تعود لخمسينيات القرن الماضي ولكن سكانها طلاب جامعيون بدلا من أن يقضوا أوقاتهم في الغناء أو الرقص والرياضة والتوقيع على الأوتوغرافات فإنهم يخوضون غمار الحياة السياسية بكل عنفوانها ويقدمون لنا نموذجا مصغرا لأحلام عربية جامحة كانت موجودة في بغداد وبيروت ودمشق والقاهرة وعواصم أخرى من الوطن العربي تحررت من ربقة الاستعمار وانغمر شبابها في تيارات سياسية وطنية جميعها تدخل (ما دامت أحداث الرواية تدور في القاهرة 1956 – 1961) في شد وجذب مع الظاهرة الأكثر سطوعا إبان تلك المدة ألا وهي ظاهرة المد الشعبي القومي الذي رافق سطوع نجم الزعيم العربي جمال عبد الناصر.هؤلاء الشباب هم يعقوب (الفرويدي / الوجودي / الشيوعي) الذي يتطوع للقتال فور وقوع العدوان الثلاثي على مصر لينتمي بعد ذلك إلى الحزب الشيوعي ثم ينتهي به الأمر إلى الخروج من المعتقل نابذاً لكل الأيديولوجيات ثم فؤاد البحريني كاتب القصة وعاشق العروبة الذي يأتي إلى القاهرة أملا في رؤية فارسها والالتقاء به، ولكنه ينتمي إلى حزب البعث إكراما لصديقته سعاد السورية البعثية، ثم ينبذها إلى حركة القوميين العرب التي يزينها له ماجد الكويتي مسؤول الحركة في منطقة الجزيرة وبعد ذلك يرتبط عاطفيا بليلى الكويتية الشاعرة التي يصفها بأنها (غنية وشعبية وعامرية وبعثية وقومية وعربية وعبد الحليم حافظية) فهي تملك قصرا في القاهرة وتعيش في بيت الطالبات وعاشقة للتعرف على المشاهير ابتداءً بجمال عبد الناصر وميشيل عفلق وانتهاءً بعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش.
هناك أيضا قاسم البحريني الارستقراطي الذي يعادي الثورة ويصادق نشأت المصري ابن الباشوات وهو الوحيد الذي ظل محافظا على نظرية الفلوس او كما يصفه فؤاد كاتب القصة قائلا: صخرة من الثبات في عالم من القلاقل.. الملوك ملوك والبوسطجية بوسطجية.
أما عبد الكريم القادم أيضا من البحرين الذي يجد نفسه في خضم تجربة عاطفية تنتهي نهاية مأساوية فانه يقرر أخيرا الانضمام إلى الإخوان المسلمين فيقول له صديقه رؤوف المصري إن الوسيلة الوحيدة لذلك هي الانضمام إليهم في السجون… هناك أيضا اشتباكات عاطفية وتجارب مثيرة (كتجربة تحضير الأرواح لعبد الكريم بعد فشل تجربته العاطفية الأولى مع فريدة).
وهناك علاقات سطحية وأخرى وطيدة ونقاشات وندوات وأسماء ومشاهير ومصطلحات ونظريات.. وعندما تنتهي سنوات الدراسة الجامعية يغادرون (شقة الحرية) إلى مصائرهم ومثلما ابتدأت الرواية مع (فؤاد) وهو في الطائرة قادما إلى القاهرة تنتهي به أيضا في القاهرة وهو يغادرها .. ولكن الفرق شاسع بين الزمنين في المرة الأولى جاء ضاحكا مستبشرا مهووسا بالعروبة وفارسها وفي المرة الثانية رحل باكيا مشككا بكل شيء وهو محبط.
كانت السياسة، إذن، هي الهم الأكبر لأجيال العقد الخمسيني ثم الستيني ثم السبعيني والقاسم المشترك بين الشباب العربي الذي كان يبحث عن التطابق بين حلمه الخاص والحلم العربي… بين الذات والموضوع. ثم جاءت الثمانينيات والتسعينيات مصحوبة بالغزو الثقافي للفضاء والعولمة والأمركة وما إلى ذلك من زوابع ضربت تلك الرومانسية القديمة فحاد الحلم العربي من الأمجاد السياسية إلى أمجاد الفضائيات الزائفة وانفصل الخاص عن العام وحث الشباب العربي خطاه نحو الرقص والغناء أو نحو الغلو والتطرف.. فتاه الحلم بين النوم والصحو .. وأصبحت أكاديميات النجوم الفضائية بديلا عن شقة الحرية وما زال الصراع بين الاثنين قائما .. فأيهما سيصمد في النهاية؟