أشواق طائر الليل
نوستالجيا الشاعر.
ميسلون هادي
أول ما تبادر إلى ذهني بعد ان قرأت رواية ( أشواق طائر الليل ) للكاتب العراقي الكبير مهدي عيسى الصفر هو ان الموت المأساوي للبطل الشاعر , الذي دخل إلى التاريخ من باب التراجيديا , والذي هز مشاعر الكثيرين بمأساويته و استدعى حزنهم العميق , قد أصبح اليوم شيئاً مألوفاً في مصائر الكثيرين ممن هم الآن في المنافي السالبة و الموجبة … الذين حقبوا الاسم و العنوان و العلامات الفارقة و القلب و العيون العقل و اليد و الورد والصبح و العيد وهبطوا على الرصيف الخالد للحنين .. ملائكة أودعوا رائحة البرتقال الأرفف العالية و تلفتوا يبحثون عن طواحين يحاربونها … ربما لا زالوا يعتقدون بوجودها وربما ضاعت حلاوة ملعقة السكر الوحيدة في جرة كبيرة من الشراب المر , وربما تاهوا فلم تعد تصرعهم روائح الشاي و الخبز و الطين و القير و الحطب المشتعل و ربما اغتربت جينات الشعر لديهم فلم تعد تستجب لشفرات بيئتها الطبيعية , وان بعض خصائص الحالمين ان جيناتهم الشاعرية لا تستجيب إلا لمحفزها المحلي الطبيعي وإذا ما انتشلت منه يصيبها العطب فتذبل أو تموت , فهل هذا هو ما حدث للشاعر الذي ترك بصرته إلى المنفى فأصاب حياته ما أصابها وتغرب هناك إلى حد الكمد ثم المرض ثم الموت .
لم أزر البصرة في حياتي سوى مرة واحدة عندما كنت طفلة إذ اصطحبتني مع بناتها الكاتبة المعروفة و صديقة العائلة السيدة سلام الخياط في عطلة ربيعية أو هكذا أتذكرها ان لم تكن عطلة عيد .
تلك زيارة لا اذكر منها غير رحلة نهرية مكثت خلالها صامتة هادئة أمشط سطح الماء بأصابعي و استمع بكرم إلى ثرثرات الآخرين .. وغير ذلك لم يعد للبصرة وجود في ذاكرتي إلا مجسدة في تلك الرحلة النهرية الصامتة في ملمس سطح الماء الذي اذكر انه كان بارداً و أتعمد مشاكسته ليتطاير رذاذهُ قليلاً على وجهي وشعري , ثم بعد ان قامت الحرب أصبحت البصرة في كتابات الصحف و شفويات الناس مضيفاً ومحطة حرب وساحة تعج بالجنود , أتخيلها متربة دائماً و حارة دائماً وعطشانة ..
ثم جاءت الأغاني البصرية ذات اللكنة اللطيفة المميزة التي تميل إلى فتح مخارج الحروف فجعلتها موانئ و قوارب و سمر مرحون يرفلون بالجلابيب البيض و الضحكات .
ان هذه المدينة الضاحكة , فيما يبدو , لها أبناء يتماهون معها و يكتبون عنه بحنين خاص له درجة حرارة عالية من العاطفة و هم يعيروننا أعينهم لنرى البصرة من خلالها , وهذا ليس من العدل في شيء طبعاً ولكنهم يقولون لنا في كل ما كتبوه : هذه بصرتنا ونحن نراها بهذا الشكل .. يجعلونها في كتاباتهم غامضة كالنجوم أحياناً , واضحة كعين الشمس أحياناً أخرى فتغبط هذه المدينة ان لها أبناء عشاقاً بالعشرات , قبل السياب وبعده , يخلدونا و يلبسونها من محبتهم معطفاً فاخراً .
و الآن ذكريات و أشواق و حنين جارف يحمله طائر الليل الذي غرد هو أيضاً في حب البصرة تغريداً في درجة الغليان و حملنا معه إلى بساتين البصرة و شطانها و نخيلها و انهرها و أشجارها و تنانيرها وبيوتا الطينية و قواربها ونجومها و سفنها و سمائها بلوحات فريد تذكرنا بان هذه المدينة محظوظة فعلاً بأبنائها وهم يكتبون لها تاريخها زائداً تاريخهم ثم يملؤون كل الفراغات بالاتوبيو غرافيا عسى و لعل ان تلتئم المدينة في النهاية لتولد من جديد اوتوبيا بلا نسيان ولا فراغات .
بصرة لديها كل أولئك الأبناء الفخورين وان عطشت سيموت فيها الناس سعداء فلا يمضون عنها إلا ليعودوا و لا ينسون منها شيئاً إلا لتذكروه .. إذن هي تمشي جليلة فارعة على الماء و الأرض ثم ترتقي عرشها و تجلس بلا تردد ملكة متوجة على الورق.
شاهد أيضاً
النصف الآخر للقمر
ميسلون هادي القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة …