ابتسم من فضلك أنت في حميلة الأجنة

إبتسم من فضلك أنت في خميلة الأجنة
ميسلون هادي
علي عبد الأمير صالح كاتب متعدد المواهب، فهو سارد ومترجم وناقد وهو أيضاً طبيب أسنان حاذق من مواليد الكوت عام 1955. وبدلاً من أن تشتته هذه الاهتمامات التي يجمعها من جهتي القلب والعقل معاً، فقد صبها في مهجة واحدة هي نزعة التأمل والاكتشاف والتقصي ليخرج علينا بأكثر من رائعة قصصية وروائية مؤلفة أو مترجمة. بدأ يكتب ويترجم منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث ترجم أعمالاً مهمة للكاتب الألماني غونتر غراس، كرواية (طبل الصفيح) و(قط وفأر)، كما كانت (حفلة القنبلة) للكاتب البريطاني غراهام غرين هي أول رواية يترجمها إلى العربية وكان ذلك في العام 1988. أما كتابة الرواية، فيقول عنها، في أحد الحوارات التي أُجريت معه: “بدأت بها العام 1996 بعد ترجمتي لخمس روايات عالمية…….. يومذاك أحسست أنني مؤهل لكتابة الرواية سيما أن خزيناً من التجارب والقراءات والترجمات ساعدتني كثيراً في خوض المغامرة الروائية….. كنت على وشك الانتهاء من ترجمة (طبل من صفيح) حين بدأتُ بكتابة روايتي الأولى (خميلة الاجنة)، إلا إنني لم انته من كتابتها إلا في مايس 2001.. وبعد ذلك بسنة وأربعة شهور بعثتها بالبريد إلى دمشق.. ربما هي الآن منشورة.. لكنني لا أعلم.. هذه هي إحدى الكوارث التي حلت بنا”.
والحاصل أن تلك الرواية التي أصبحت بين أيدينا الآن، قد صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت في العام 2008 مما يعني أنها لم تصل إلى هدفها في دمشق ولم يتحقق نشرها إلا بعد سبع سنوات في دار نشر أخرى غير تلك التي أُرسلت إليها على الأرجح.. وهذه فعلاً مفارقة مؤلمة من مفارقات ظروف نشر تلك الرواية. أما تزامن كتابتها مع ترجمة الكاتب لرواية (طبل الصفيح) فهي مفارقة أخرى سنتحدث عنها بعد قليل.
يتتبع علي عبد الامير صالح في هذه الرواية حكاية بطله العراقي (سوادي حمدان) مبتدئاً من طفولته المبكرة مع جدته (فضة) القابلة زوجة مفرغ السفن التي تصل الكوت محملة بالغلال والبضائع، وهي التي أورثت (سوادي) هوسه بالمفاتيح والحبال السرية. يعيش سوادي مع جدته وأمه بائعة الخل وخالاته في عمارة ذات طبقات.. وفي سرداب المبنى السكني يقيم أبوه الذي يصنع التوابيت بعد أن أعتزل العمل السياسي.. “جدته في الأعلى تجر الاطفال الى العالم وأبوه في الأسفل يهيّيء لهم النعوش “ص25… وهناك أيضاً طبقة علوية في المبنى لعذراء عشيقة حمدان التي تحولت الى زوجته فيما بعد.. ومن خلال النجار (حمدان أبو سوادي) سيعزف الراوي على سيمفونية الخشب الذي لا يسمع ولا يتكلم.. ولكنه يلخص فلسفة حياة بأكملها حينما يتحول المهد إلى تابوت ما أن يضع النجار الغطاء فوقه.. وليس أكثر من الروائح والأصوات وأجواء المكان العراقي، قدرةً في الفصول الأولى من الرواية، على إثارة وانبعاث الرسائل الحسية، حيث يستكشف الروائي، بحذق شديد، عالم النساء داخل البيوت، ويصف مساحقيهن وملابسهن وأهواءهن ولا ينسى أيضاً أن يُملي علينا طريقة عمل طبق التبولة.. كما يصف لنا أول يوم دراسي له في الصف الأول (ب) وأول حرف كتبه في حياته عندما علمته خالته (هند) كيف يكتب حرف الهاء وهي تقول له: “ألا يشبه بطن امرأة حامل وبداخله جنين”؟
هناك أيضاً خبرة الروائي بوصفه طبيباً والتي تجعله ينتبه لتفاصيل كثيرة يتعبقها بمهارة بالغة فيعن له التوسع في الكتابة عن عوالم الحمل والولادة والوشم وقص القلفات واستعمال المساحيق والمطهرات بعد الختان أو عند قص اللوزتين أو ظهور الدمامل.. وليس هذا ما يميز الرواية فحسب، ولكن ما يجعلها أكثر تميزاً، بالإضافة إلى إصابة هذا العنصر الحسي من الحياة إصابة بليغة، هو إضفاء الطلاقة على الموضوع المحلي وربطه ربطاً يبدو عفوياً وذكياً بمتغيرات العالم الخارجي، ولنضرب مثلاً على ذلك بتصالح زوجتي حمدان في الصفحة 71: “الزوجتان تتصالحان..الحرب الباردة بين الزوجتين توشك على الانتهاء.. أما على صعيد السياسة الدولية فكانت ما تزال متأزمة بسبب أزمة الصواريخ الكوبية، أو أزمة خليج الخنازير، كما تسمى عادة.”
بالنسبة لـ(سوادي) فإن رحلته مع قافلة الألم بدأت بعد أن هرب ذات يوم من الجيش إلى ماخور في البصرة، وبدلاً من إعدامه رمياً بالرصاص، فإنهم يحوّلونه الى مهرج مسخ لتسلية العسكر مع الغجر في سيرك.. ثم يمر الكاتب على الحرب بطريقة فيها تهويل رمزي مقصود حيث تنشأ لـ(سوداي) حدبتان، واحدة في صدره والأخرى في ظهره، لنصبح أمام حدث غرائبي انكتب بطريقة لا تتلاءم مع واقعية الرواية ونسيجها المحبوك قبل ذلك. وحتى عندما نعرف في الفصل التاسع من الرواية أن حالته نادرة وقد أثارت جدلاً بين الأطباء بل أصبحت حقلاً للتجارب، فإن تلك الإصابة تبقى غير مقنعة بدون أن يكون هناك سبب مقنع لها. سيحدث هذا الخرق أيضاً مع خالته (هند) التي تتحول إلى عارضة أزياء وتسافر إلى باريس ولبنان بطريقة غير مقنعة ولا تسبب القلق أو الفزع لأي فرد من العائلة. وأيضاً لا يثار هذا القلق أحياناً من تصرفات شخصيات أخرى كـ(الدكتور عباس) أبو الفالات و(غرنوقة) الطاهية و(زرياب) عازف الكمان و(ريسان وزير الطماطة).. بينما هناك شخصيات قد رسمها صالح بعناية جميلة كـ(فضة) و(حمدان) و(سعدون) ساعي البريد الذي يطوف بدراجته الهوائية المحملة بالرسائل فيستقبله الناس بالكراهية والعبوس لأنه لم يعد يحمل سوى بلاغات الذين هرستهم مطحنة الحرب. الحبال السرية أيضاً ستتقطع في مشهد مهول يصف سقوط صاروخ في سوق شعبي، حيث يخرج جنين زكية من بطن أمه إلى الفضاء مقرراً الانفصال عن العالم بأسره:
“أفترشوا أرض الساحة التي عمتها فوضى تامة، وسيطر عليها اضطراب لا مثيل له.. لم يرقدوا هناك بوحدة كاملة، بل طارت أعضاؤهم، أرجلهم، أذرعهم، رؤوسهم، وتمزقت أشلاء هنا وهناك.. صوت المغني لم يزل يرن في الفضاء (شلك عليّه يا زمن وشرايد)، إنما لم يرد عليه الزمن ولا أحد.. لم يجبه أحد”- ص180.
بعد انتهاء الحرب ينتهي عمل سوادي في السيرك وينال هوية عريف متقاعد ويقرر أن يقيم في بغداد ويعمل فيها. يتعرف هناك على بائع النكات، هذا القزم الفظ الذي لا يبتسم أبداً، ولكنه يبيع النكتة بخمسة وعشرين ديناراً، وبوسع الناس أن يروه في كل زقاق وشارع من شوارع الوزيرية والأعظمية.. نكات موضوعة على شكل ورق مبروم في خانات بسطة القزم ولكنها تلخص عصراً بأكمله عندما تسخر من شح البصل وثقب الاوزون والنعجة دولي وحبوب الهلوسة وأغاني الفيديو كلب……إلخ. أرصفة بغداد ستلخص هي الأخرى عصراً بأكمله عندما تقول الرواية:
“إلى الأرصفة جاء بائعو المسبحات وبائعو العطور المعبأة في كاريولات تخدير الاسنان.. إلى الأرصفة جاء الغجر الذين تغنوا قبلاً بأمجاد العسكر وحروبهم الرعناء…. إلى الارصفة جاء الرجل الخفي السابق وشرع يبيع النكات المبرومة كالاومليت.. إلى الارصفة جاءت بائعات الاعشاب الطبية.. اليانسون والزعتر وجوزة الطيب والزعفران والبابونج والحناء”- ص 244.
يصبح (سوادي) الآن في حال أخرى.. تنقطع صلته بحياته الماضية ويُسدّل الستار على فصلين مهمين من حياته، فصل دراسته الجامعية في بغداد وفصل الجندية الذي دام عشرة أعوام .. ولكن أين عائلته؟.. أين جدته فضة وخالاته وأخواله وأمه بائعة الخل؟.. وأين أبوه صانع التوابيت؟.. ينقطع الراوي عن تفاصيل هذا العالم البيتوتي الجميل، وتمضي الفصول مقطوعة الصلة بين (سوادي) وعائلته إلى أن ينتهي به المطاف ببيع الكتب على رصيف في شارع المتنبي ليتعرف بعد ذلك على شاب يجيء ليطبع ديوانه الأول في مكتب استنساخ الشاعر أحمد الشيخ علي، فيشفق عليه سوادي ويأخذه معه إلى ملجأ الفقراء الذي يقيم فيه، وهناك سيعرفنا الرواي على هذا الشاب باسمه الحقيقي، فهو الشاعر عقيل علي، وقبل ذلك يذكر الراوي أدباء آخرين بأسمائهم الحقيقية.. وهناك، في الملجأ كما على الجدران والأرصفة، ثمة شعارات تلخص حقبة من تاريخ العراق: “كل شيء من أجل المعركة”.. “أمّمنا صمدنا فانتصرنا”.. “النفط لنا”.. “سنقاتل حتى آخر قطرة دم في عروقنا”.. إلخ.
يتعرف سوادي في الملجأ على نزلاء آخرين.. كـ(غرنوقة) الطاهية التي تدفع عربات الطعام، وطبيب الأسنان (توب توينتي) وقردته (سومة) التي ستصبح لاحقاً أنيسةَ (سوادي) الوحيدة.. ولكن بعد موت (سومة) بتسعة شهور سيأتي ضيف آخر إلى الملجأ وهو (الكناني) الذي قرر التحول من السياسة الى الأدب والتخلص من شقاء عزلته بكتابة ثلاثية، هي المشروع الوحيد الذي يتبقى له بعد حياة بائسة.. وهنا يقرر (الكناني) كتابة حكاية (سوادي حمدان) صديق طفولته وبطل روايتنا هذه، وهنا أيضاً يتمنى القارئ أن يكون صاحب هذه الثلاثية هو الراوي المفترض لـ(خميلة الأجنة)، ولكن الرواي يظل يخاطبنا بضمير الشخص الثاني دون أن يفصح في خاتمة المطاف عن نفسه أو نعرف من يكون.. وكان من الممكن، بعد أن ينهمك (سوادي) بقراءة ثلاثية (الكناني)، أن تكون هذه القراءة بعد فترة طويلة من نزوله بالملجأ، يكون فيها (الكناني) قد أضاف حكاية (سوادي) إلى ثلاثيته بحيث تكون بداية الثلاثية هي بداية الفصل الأول للرواية. ولكن هذا لم يحدث مما جعل شخصية (الكناني) فائضة عن حاجة الرواية. والأمر نفسه ينطبق على (غرنوقة) التي كانت شخصية غير مؤثرة بالقياس إلى الخادمة (حواء) التي كان دورها في حياة البطل مؤثراً بالرغم من قصره.. وحتى عندما تنتقل عدوى الكتابة إلى (سوادي) ويقرر بعد زيارته المأساوية لخميلة الأجنة أن يعبر عن احتجاجه ضد هذا العالم الظالم بالكتابة، فإن هذا لم يحقق لنا أمنية العثور على شخصية الراوي.
عنوان الرواية متأت من هذه الحديقة التي أطلق عليها هذا الاسم الشاعري الجميل.. (خميلة الأجنة).. وهي خميلة تنطوي على مفارقة جهنمية كونها تضم تماثيل الأجنة الرافضين للحياة والهاربين منها إلى المكوث في الوضع الجنيني الذي يعني الاطمئنان والشعور بالراحة والأمان. وفي ساعة متأخرة من بعد ظهر يوم آذاري سياتي طبيب الأسنان (توب توينتي) ويصحب (سوادي) و(الكناني) اليها فيتفرجون على تماثيل أجنة قانطة مغمضة متكورة على نفسها وعلى الحبال الممتدة بينها في كل نصب حجري أو برونزي.. هناك يشاهدون مسحات الإحباط على وجوه ناعمة وهادئة وشاحبة وباكية وماكثة في تلك الحديقة إلى الأبد، وكأنها تقدم صورة بليغة لمأساة من مآسي العصر، وتعيدنا إلى شغف البطل التراجيدي بالحبال السرية، حيث يقول الراوي ” ألا تذكرك يا عزيزي بالحبال السرية؟ لماذا ننسى حبالنا السرية حال مجيئنا إلى الدنيا؟ ولماذا لا يحفظها لنا أهلنا طالما هي ملكنا لنا وحدنا؟”- ص306.
حكاية علي عبد الأمير صالح عن (سوادي حمدان) تتحدث عن رؤيا تختلط فيها الواقعية بالسحرية.. كعمله مثلاً مهرجاً في السيرك خلال الحرب، وظهور حدبتيه بشكل مفاجئ، أو ما يحدث في حياته من أهوال تحمل الدلالات الرمزية لمحنة العراق بأكمله. في الحقيقة لقد اخترقت الفنطازيات النسيج الواقعي للرواية وكادت أن تخلخله قليلاً، وهذه هي المفارقة الثانية التي أشرت لها في المبتدأ، حيث عرفنا أن كتابة الرواية تزامنت مع الانتهاء من ترجمة (طبل الصفيح)، وكانت ظلال الثانية واضحة على الأولى من خلال غرائبية شخصية (سوادي) وشخصيات أخرى كالقزم بائع النكات المبرومة وأيضاً (غرنوقه) التي يشخب حليبها على كل شيء في ملجأ الفقراء. وبقليل من تنظيم العلاقة بين الفانتازيا والواقع كان يمكن اختزال بعض الشخصيات غير المؤثرة أو الاستطرادات التي شكلت عبئاً على المتن، بالرغم من جمالية اللغة وحسها الساخر.. هذا لا يمنع من القول بأن هذه الرواية المتميزة تضيف إلى الرصيد الروائي العراقي رقماً صعباً اسمه (خميلة الأجنة)، تلك الحديقة الجهنمية المرعبة التي ترمز إلى الخراب وتمثل أقسى درجات الهروب من الحياة بينما، فضائيات العالم تطارد (سوادي العراقي) وتقول له: ابتسم من فضلك.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

النصف الآخر للقمر

ميسلون هادي القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *