كلما نظرت الى شخص أعرفه الاّن ونظرت الى صورة قديمة له وجدته في شكله الحالي أكثر الفة مما هو عليه شاباً في الصورة ، بل لبدا لي أقرب وهو في النصف الثاني من العمر إلى جمال منجز ومكتمل : أعني إلى ثبات ووضوح كاملين ، بينما يحمل شباب الصورة، في النصف الأول من العمر، فورة الفتوة قبل أن تنضج وتستتب الى شكل مستقر . لطافتها في براءتها حسب، ولكن البراءة قد لا يكون لها مكان على الارض، إذا ماعلمنا انه عن طريق البكاء، يقوم الطفل الرضيع بايقاظ أمه من النوم، فيحصل على الحليب مقابل سكوته.
فإذا ما وضعنا تلك البراءة جانباً، وجدنا في شباب الصورة فائضاً في الخفة، أو غلواً زائداً سيبدو فيما بعد غير محتمل، حيث النحافة أكثر مما ينبغي، أو الشعر أكثف مما ينبغي، والملابس أوسع مما ينبغي، أو أضيق مما ينبغي ……بل وحتى الملامح جاهلة وطازجة أكثر مما ينبغي، وأعتقد ان ذلك لايعود سببه الى الاعتياد الذي قد يجعل أعيننا تألف التغيير يوما بعد اّخر، فلا نستغرب شكل الشخص الذي نعايشه الآن، بينما نستغرب شكله في الصورة القديمة، وانما يعود الى أن هذا الشخص الذي نعرفه الآن هو ابن الزمان الذي نعيش فيه، وهو ينتمي بهذا الشكل الى هذا الزمان الحاضر، فنجده أليفاً ولطيفاً وغير مستغرب، بينما شكل الصورة ينتمي الى عصر آخر أصبح ماضياً، ومعه مضى وانطوى زمان يخصه ولا يخصنا.
هذا من جهة… ومن الجهة نفسها فإن الانسان، ومع تقدم العمر، يكتسب حالاً خاصاً به هو الجمال الذي يكون هو مسؤولاً عنه، وليس الجمال المسؤولة عنه العوامل الوراثية التي تحملها الجينات، فالوجه الجميل ستنعكس عليه وبمرور الوقت إملاءات رغباته الشخصية وأحلامه ونجاحاته واخفاقاته، فيحمل تعبيراً معيناً يجعل نظرتنا إليه مختلفة كليا منها إلى وجه بالملامح نفسها. الرجل الوسيم مثلا قد تمحو وسامته سمة الغرور أو التفاهة أو الشر أو العصبية، على العكس من رجل اّخر، قد يكون بعيداً كل البعد عن الوسامة أو الوجاهة أو الملبس الأنيق، ولكن النظر الى وجهه يمنحك إحساساً عميقاً بالألفة والارتياح، وربما يبهرنا الى الدرجة التي نعتقده فيها رجلا وسيماً يخلب الالباب.
إذن الانسان بعد ان يتجاوز مرحلة الطفولة والمراهقة سيصبح مسؤولاً عن شكله، وهذه المسؤولية هي التي تعطيه وجهاً جديداً يحبه الناس أو يكرهه بغض النظر عن جماله بالمعنى الفيزيائي للكلمة، ليس هذا فحسب، بل أن بعض صفاته سستتركز فيه وتتكثف مع تقدم العمر، فيزداد بخلاً اذا كان بخيلاً، ويزداد كرماً اذا كان كريماً، ويزداد لغواً اذا كان ثرثاراً، ويزداد صمتاً اذا كان قليل الكلام. تماماً كما يحدث مع ثمار أمنا الارض التي اذا تقدم بها الوقت ستزداد حمرتها وحلاوتها حتى بعد قطفها. وعندما يمر الوقت على ثمرة طماطم موضوعة في الثلاجة لعدة أيام، نجد أنها تنضج ويزداد لونها حمرة، مما يعني أنها تستمد هذا اللون من داخلها لبقية عمرها، بعد أن كانت تستمده فيما مضى من الجذور والتربة.
الأمر نفسه يحدث مع الكتابة، وبلا تردد أقول ان الكتابات الأولى في مسيرة الكاتب تحمل الطعم الحاذق النيء للثمار المقطوفة قبل أن تنضج وتثوب الى مستقرها الجاهز للقطف، وهذه المرحلة من الكتابة تمثل الفورة الأولى لفطرة الكاتب وانحيازه لجينات الموهبة الوراثية، بينما مسؤولية الكاتب الحقيقية تقع فيما بعد على شكل بصمة خاصة تصنعها أخلاق الكاتب وثقافته، وتعززها عوامل أخرى كثيرة مثل طبيعته اذا كان متانياً أو عجولاً أو منطوياً أو جريئاً أو خجولاً، بالاضافة الى مصادره الثقافية وبيئته الجغرافية وخبرته الحياتية، وهذه العوامل مجتمعة ستضيف للفطرة خواصاً جديدة بتفاعلها مع بعضها البعض تنتج اللمسة الخاصة للكاتب وهو مسؤول عنها كل المسؤولية ويجب أن يعمل باتجاه تطويرها وتأكيد خصوصيتها.
وهكذا هي الرؤية أيضاً فهي لا تصنع الموضوع بعيداً عن الرائي. بل تتغير وتتطور باستمرار وتدعونا للمشاركة في إنتاجها، من حيث كونها حركة تبادلية مستمرة بين قراءتنا للعالم وكينونته الفعلية، إلى أن تستتب هذه الرؤية كعملية نستطيع من خلالها أن نقرأ العالم بينما نحن نقرأ أنفسنا. وتبعا لذلك، من الصعوبة أن تكون هذه القراءة منفصلة عن ذات الكاتب وأهوائه، بمعنى أن الكاتب يبذل جهداً أخلاقياً كبيراً لكي يحقق هذا الإنفصام في لحظة اتحاد. أنها واحدة من صعوبات الكتابة وتحدياتها عندما نحاول أن نتناول الموضوع بعيداً عن الذات، أو أن نحاول التوفيق بين الاثنين. فالكاتب يتفاقم عنده الصراع اليومي الذي يعيشه كل إنسان بين أن يفعل الشئ وبين أن يستخف بهذا الفعل الزائل، وهذا الإحساس بعبثية تلك الأفعال يتطور إلى كونها ليست هي مقياسه للنجاح أو الفشل في الحياة. فهو متمرد على الكثير من المسلَمات الإجتماعية التي تواضع عليها الناس بسبب العقائد أو الإيديولوجيات، ومع تقدم العمر وتراكم التجربة وتحديث الخبرات، يمتد هذا الشك لمساحة كبيرة من كتاباته، فيبدأ النظر إلى الأمور بشكل مختلف، بمعنى أن رسم مسارات معينة تخضع لقوالب معينة، ومقاييس نجاح معينة تصبح موضع إختبار وإعادة نظر بالنسبة له، ولعوالم رواياته على وجه التحديد، ولهذا انعطفتُ إلى السخرية في روايتين أخيرتين أحداهما نشرت قبل أيام وعنوانها (أجمل حكاية في العالم)، والثانية نشرت قبل عامين وعنوانها (حفيد البي بي سي)، وفيها كانت العجوز المرحة شهرزاد، ذات اللسان السليط، تتهكم على أولادها وأحفادها وأزواج بناتها، وواحد من أولئك الأحفاد هو بطل الرواية عبد الحليم، الذي يعمل رقيباً للمطبوعات، ويحمل سيفاً بتاراً يفرق به بين الصح والخطأ، فتخيلوا كيف يمكن من انرسم حده الصارم بين الحق والباطل على جدار ايديولوجيته التي تربى عليها ولا يعرف سواها، كيف يمكن أن يكون حكمه في المنع أو السماح صادقاً أو عادلاً أو حقيقياً؟ هنا توجب التهكم على هذه الشخصية الدوغماتية المنغلقة على نفسها، وتطويقها من قبل المحيطين بها، ولكنها ستدافع عن نفسها ومعتقداتها في فصل من فصول الرواية..
بعد أن نشرت هذه الرواية طرأ على بالي سؤال آخر؟ إذا كنت قد تهكمت على الرقيب الوفي عبد الحليم في (حفيد البي بي سي)، فأنا من يتهكم علي؟ أليس الحد الذي قد اضعه بين الخطأ والصواب قد يكون هو الآخر مرسوماً على جدار وهمي كباقي الأوهام، فيكون بعيداً كل البعد عن الحقيقة.. وجواباً على هذا السؤال كانت روايتي الساخرة الثانية (أجمل حكاية في العالم) المنتمية إلى ماوراء القص، والتي انكتبت على شكل رواية داخل رواية.. بمعنى أنها في حالة من الانقلاب المتواصل على فعل القراءة المألوف . ولذلك تستمر وتتواصل، وهي تحاول إبعاد هذه الألفة من خلال فضح فعل القراءة، كما يقول فوكو، وفصل القارئ عن النص أثناء توحده معه.
لقد وجدت في هذا التهكم خروجاً من مأزق غياب الحقيقة، أو نسبيتها، واختلافها من شخص لآخر.. فكيف لي أن أقترب منها بجدية دون أن أن أتهكم عليها لكي لا أنحاز لطرف دون آخر.. فالمرأة المحجبة قد تنظر لي على أنني انسانة مختلفة من عالم آخر.. وأنا أيضاً قد أنظر إلى إمرأة ترتدي فستاناً بدون أكمام على أنها إمرأة مختلفة من عالم آخر، فهل من حق واحدة منا أن تحكم بالسوء على الأخرى. بالإضافة إلى ذلك فإن الخروج بنتيجة حاسمة حول هذا ليس ممكناً أو عادلاً.. يقول شابنهاور (كل أمة تسخر من الأمم الأخرى وكلهم على حق).. بمثل هذه الطريقة قد يفكر الكاتب، ثم عليه أيضاً في ذات الوقت أن يكون مسؤولاً عن الخير، وأن يولي الإنسانية عنايته القصوى.. ومن هذا الصراع ترتدي الكتابة ألف وجه ووجه، ولا تكون خادمة للأيديولوجيا ولن تكون، وعندما أنظر إلى أغلب كتاباتي أجد أنني لم أهتف أو أتقدم الصفوف لأرفع شعاراً في مظاهرة، إنما تركت الشخصيات تتحدث عن نفسها، تاركة الحكم النهائي للقارئ.. وطبعاً هذا الحكم لن يكون بعيداً عن ذبذبات المحيط المعناطيسي للكاتب، ومن هنا تأتى صعوبة أن يكون الكاتب منتمياً لأيدولوجيا معينة تجعله يدافع عن سياسات وأفكار معينة، فيفقد حياده وتجرده، ويرتكب جناية بحق أهم قيمة من قيم الحياة والكتابة، ألا وهي التنزه عن الكراهية والتعصب الأعمى.
وعودا على بدء اذ قلت لكم اني أجد الانسان أكثر ألفة في العمر الذي هو فيه، فأني أضيف بل أن جوهر الحداثة أيضاً هو في أن ينتمي الكاتب الى اللحظة التي يعيش فيها واللحظة التي يكتب فيها، أي أن يكون إبنا للزمان الذي يعيش فيه، وحداثته في ان ينتمي اليه، ويعقد صلحاً وقراناً بين الواقعة والحلم، أي بين جموح أحلامه، وبين أن يمشي بين الناس في غبار الطرقات. فنحن الان في مطلع القرن الواحد والعشرين وقد غطت سطح الكرة الارضية أرتال من المثقفين اصبحت جميعها تنطق بالحكمة، وتحوز الفطنة ورجاحة العقل، حتى ان مصطلحاً مثل (أنصاف المتعلمين) أصبح شتيمة يطلقها المتعلمون على الأقل ثقافة وشأناً في عصر مهول من الاضواء والاتصالات والاقمار الصناعية وما إلى ذلك من مبالغات تقتحم خصوصيات الناس، وتقض عليهم مضاجعهم. والكاتب الذي ينتمي لهذا الزمان قد لا يحب هذا الزمان، أو يشتم هذا الزمان، ولكن هل يحق له لمجرد انه يمتلك موهبة الكتابة أن يكتب لكي يحكم ويدين وفق أنماط جاهزة تنحاز لطرف دون آخر، (وكأن الكتابة هي سبورة نرى فيه الخطأ والصواب)، أم يكتب لكي يرى ما يراه هو لا ما يراه الاخرون، والقاريء هو الذي سيتوصل في النهاية الى المعنى والمرامي، و بهذا المعنى يقول الشيخ الاكبر ابن عربي أن الكاتب الأرفع هو من كان مداده نفس قلمه وقلمه نفس اصبعه واصبعه نفس ذاته فيكون هو هو وليس غيره.
ولهذا فإنه من خلال خلود نص بسيط وقديم، قد يكون حكاية شعبية، أو لحناً لزكريا أحمد، أو قصيدة للملا عبود الكرخي، أو أغنية للشيخ إمام أو عزيز علي.. قد نعثر على الرؤية العابرة للزمان، لأن مثل هذه الأعمال كانت منتمية للحظة الكتابة، وبقدر أنتمائها هذا للحظة الكتابة، لم تتجاهل المعنى المطلق والكوني للأشياء من حولها. الموضوع يأتي أولاً، أما الشكل فيجب أن يكون شفافاً الى الدرجة التي تجعلك ترى الأفكار من خلاله لا أن تراه، بعبارة أخرى أن لا ينسى ولكن يجعلك تنساه. أما أن لايوجد الموضوع أصلاً ونزخرف النص بمشاكسات شكلية غير ضرورية، فان الزخرف زائل والأصل باق. أم هل رأيت خبازاً يعلن على واجهة مخبزه عن عجينة جديدة للخبز يستخدم فيها خلطة سرية قد يستعمل فيها التوابل أو الزعتر أو غير ذلك؟ الخبز هو الخبز ولا يمكن صناعته بمكونات الكيك أو الفطائر أو السكاكر، وهو دائماً يمون نفسه من عنصرين رئيسين هما القمح والماء وبهما يختمر ويكتمل ويتحدد جوهره الخالص. وعلى النار التي لا يجيد إشعالها الا الفران الماهر، سيكتسب شكله النهائي ويفوح بعبق لطيف سيجذب اليه القاصي والداني والجائع والشبعان، وهكذا هي الكتابة القوية من الجوهر تكون زاهدة بمظاهر الأبهة الاخرى، لأن قوتها الضمنية ستفصح عن قوة شكلية فيولد النص قوياً بالضرورة.
أما كيف تمنح الكتابة المعنى، فمن الجهة نفسها، يكون من المستحيل تماماً أن يكون المعنى نابعاً إلا من جوهر الحياة ذاتها، والتي قد أشبهها مثل قميص مبلل إذا أردت تجفيفه، فهل تنشره تحت الشمس أم تحت ماء المطر لكي يزيده بللاً؟؟ هكذا هي الحياة قد تبدو لنا متناقضة وعديمة المعنى، ولكن تأتي الكتابة لكي تستخلص خيطاً رفيعاً للمعنى من هذه الفوضى، لا لكي تزيد من هذه الفوضى سوءاً وتحولها الى ضجيج أو ضباب.. ولهذا أحياناً أتحمس للواقع كثيراً، وأشعر بأني معنية بل مهمومة به وبتقديمه بالصورة التي يجب أن يكون عليها. وأحياناً أتحسسه بأصابعي مثل شخص ضعيف النظر يتلمس ثمرة مخددة أمامه، ولا يعرف ماذا تكون بالضبط هذه القطعة المغضنة المليئة بالتعرجات.. في الحالين هناك قاسم مشترك لا أستطيع التخلي عنه.. وهو التشبث الخفي ببساطة الحياة ونبذ المبالغات التي أصبحنا نعيش فيها سواء في العقيدة أو الأستهلاك أو التكنولوجيا أو سرعة الاتصالات عبر الأقمار الصناعية.
الكتابة في النهاية هي لغة كونية لنوع معلوم من البشر ينصرفون لتأمل العالم البائس من حولهم، واستباقه بخطوة إلى أمام.. وقد قال أجدانا القدماء إن الشاعر يوحى إليه من الجن التي تجتبيه من بين البشر، وتلهمه العقل أو الجنون، وبهذا المعنى فالكاتب إنسان مختلف يجد نفسه مهموماً بالوجود وأسئلة الوجود، وقد يجيد التعبير عن هذا الهم بالكتابة أو الفنون التعبيرية الأخرى من أجل تبديل السيئ بالأقل سوءً: في نفسه أولاً، ثم العالم من حوله.
مجلة الحكمة. التسعينات
شاهد أيضاً
الأحلام لا تتقاعد
لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …