قراءة في مجموعة” شتاء مضى” الصادرة حديثاً عن دار سطور
إنها شمس أعمار مضت
ميسلون هادي
قصص هذه المجموعة تأسر قارئها بالإحساس الصادق الذي يشدنا إلى عالم فتيات صغيرات يتعرفن على العالم من حولهن، ويتمردن عليه، وأحياناً يتورطن في أداء أكبر من وعيهن وأعمارهن ليقعن في خيبات الأمل والحلم، وهذا هو ، بشكل أو بآخر، حال بطلة قصة (بروليتاريا)، التي تجد نفسها تنتظم في مدرسة راقية، فتتمرد على واقع البنات البرجوازي بقراءة كتب سياسية، والانتماء إلى حزب يساري، وأن يكون أول إنشاء تكتبه في المدرسة الجديدة تحت عنوان بروليتاريا .. كلمة خطرة ولا شك يجب أن لا تتورط بها فتاة صغيرة، ولكنها عنيدة منذ الصغر، ومتمردة على الأم الخنوعة الخجولة، والأب المتسلط، فتنتهي الحكاية بأن تصبح هي ضحية خوفها من رجال الأمن، لأن تمردها كان نتاجاً لإحساس بالتميز اختلط بعمر المراهقة فأنتج أملاً واهماً .. الخوف من رقابة العيون ينتقل إلى قصة (عيون) التي تصب في نهر البراءة عندما تعترضها عقبات العالم وقسوته المفرطة، بل وحشية أصحاب القرار والسلطة فيه.. فالتجارب هنا عفوية لفتح أبواب مغلقة تجد خلفها الصدمات والكدمات فتكفئ البراءة على نفسها منسحبة عن هذا العالم القاسي..
في مثل هذا العالم الذكوري قد يحتاج الأمر إلى ندية أو ضدية للخروج من حالة السكون التام، وهو سكون اجباري واضطراري للدفاع عن النفس، يجعل البطلات ينسحبن بهدوء إلى حوار داخلي متواصل، أو ينكصن إلى طفولة قديمة لا يمكن استعادتها إلا بلحظات تأملية تكون مع النفس أو مع الغائبين، كأن هذه النفوس الحائرة تتظاهر بالسكون والموت لكي تدافع عن نفسها.. كما لم نسمع في القصص الأحدى والعشرين للمجموعة إلا وجهة نظر واحدة من خلال وعي الأبنة أو الزوجة. ولم يكن هناك وعي الآخر فكأن قصصها لم تكن تحتمل أكثر من هذا النقل الحي الحساس لخلجات بنت صغيرة تعيش الحروب وجنون العالم وتتوق إلى براءة هذا العالم عندما كان يشبه نغمات البيانو الصغير الذي تخبئه في صندوق العابها.
قد يبدو هذا الموقف سلبياً بحق المجموعة، ولكن كاتبتها نجحت في أن تأسرنا بأجواء هذا العالم الداخلي للفتيات الصغيرات، وأن تدفعنا إلى الوقوف عنده، وتأمله ملياً، ولها القدرة أيضاً بلغتها الحسية الجميلة أن تجعلنا، دون هتاف، نكره هذا التسلط الذكوري وننزعج من جميع تداعياته وتفاصيله، إلا إننا نستغرب في قصة (أشعة عتيقة) من المجموعة كيف لطفلة عمرها سنوات قليلة أن توجه سؤالاً لخالتها عن العلاقة الحميمة، صحيح أن القاصة قد تعكزت على السخرية في طرح ذلك السؤال، إلا أن الطريقة التي ردت بها الخالة اتسمت بالواقعية والمباشرة، بحيث بدت وكأنها تتحدث إلى أحد آخر غير هذه الطفلة.
في الطابق العلوي تتألق القاصة محاسن عبد القادر في انتاج إحساس مشحون بكل عناصر المعادلة العرجاء بين أب ينام لوحده في الغرفة، وأم تسكت بناتها في الطابق السفلي، وتحاول أن توفر له الجو الهادئ لكي ينام. هذه البنت كلما كبرت بعدت الشقة بينها وبين الناس، فتذهب إلى التيه، وتتعقب خطى طفلة صغيرة حملت المسدس، ولكن لتقتل جدياً هذه المرة.
قصة (إنها الشمس)، تكاد تكون أفضل قصص المجموعة لما تترك من الأثر والأسى حول قسوة المجتمع الذكوري برمته، وانصياع المرأة الأم لسلطة ظالمة إلى درجة أنها تستسلم لجلستها الأبدية فوق تخت المطبخ في بيت زاده الصبر، وتملأ حديقته نباتات الصبار.. إنها تتشبث ببيتها ولا تتركه مطلقاً إلا للضرورة القصوى، وحتى عندما تمطر الدنيا فإنها تشاهد المطر من النوافذ وفي أفضل الأحوال من الحديقة.. وتجعلنا القاصة باقتدار ننتقل مع الابنة إلى مكان جديد.. إلى بهجة طفلة تخرج إلى حديقة الدار للمرة الأولى، وتخطو أول خطوة بين أحواض الزهور إزاء أم لم تخرج من بيتها إلا لشراء الخضار أو الذهاب إلى الطبيب بعين واحدة، وعندما تغادره الى المستشفى وهي في الرمق الأخير ترفع رأسها إلى السقف، وتتأمل مصباحه الكهربائي، تظن أنها ترى السماء، وتقول لإبنتها بدهشة:
-أنظري إنها الشمس
هذه القصة تصطف برأيي مع أفضل القصص العراقية التي قرأتها ، وكنت أتمنى أن تحمل المجموعة اسمها.
مجموعة شتاء مضى، محاسن عبد القادر، صادرة عن دار سطور بغداد 2017