أيام في هارفرد

أيام في هارفرد

ميسلون هادي
لا أحد يصرخ هناك أو يتعارك.. أيامهم السعيدة لا تجعلهم في صدر نشرات الأخبار، بينما نتصدر نحن الأخبار والتاريخ بجدارة، لأننا تعساء على الدوام.. والذي يفكر بالمشاكل لن يجد سوى المشاكل ولن يرى غير الموت والحروب… هناك يعلمونهم، من الصغر، أن يحلموا بالسعادة ثم يحققوها، وأن لا يفكروا بغيرالأيام الجميلة لكي يعيشوها. المكان نظيف.. الأشجار يانعة الخضرة.. الهواء نقي.. الباصات هادئة.. لا يصدع رأسك سائقوها بالأغاني السوقية، ولا يلوثون فضاءاتها بالصور الرخيصة أو بدخان السكائر المفروض عليك. ولكن هذا كله لا يُغني عن مناقشة المأزق الأخلاقي الذي يجعل هذا البلد عدواً، بينما الناس يجعلون من الحرب مادة لإقامة النشاطات الخيرية، ويجمعون التبرعات من أجل الطفل عمر..
(عمر) كان في حضن أمه عندما تجاوزت سيارة الأجرة حاجز تفتيش أمريكي قرب مدينة سامراء في العراق، فأطلق الأمريكان النار على السيارة وماتت الأم في الحال وجرح السائق ونجا الأب واحترقت أطراف الطفل ووجهه بشكل كبير. عمر الآن يقضي وقته في أحد مستشفيات كمبردج، إذ تُجرى له عمليات ترقيع مفزعة، وأحد أساتذة الـ(إم أي تي)، وهو المفكر المعروف نعوم تشومسكي، كان يقيم الندوات من أجل جمع التبرعات لعمر. عندما رأيت الطفل في الصور، وكان قد أصبح في الخامسة من العمر، آلمني ما رأيته من وجه جميل تشوهت بعض ملامحه، وفروة رأس منفوخة إلى الأعلى بشكل مخيف، لأن الأطباء أرادوا تمديدها ورفعها عالياً لتوسيع منطقة الشعر ثم إعادتها إلى وضعها السابق بعد ذلك، ليستبدلوا بها الأماكن المحروقة في الرأس والخالية من الشعر. لم أكن لأشك في نوايا أولئك المتبرعين الصادقة، ولكني في داخلي كنت غير مقتنعة بأن يمشي أهل القاتل في جنازة القتيل.. بلادهم دَمّرتْ بلادي، فما فائدة المشي في جنازات الجرحى والمحترقين والمشوهين؟ وما هي معايير العدل الذي يجعل البطاقة الخضراء وزرْعَ الآذان أو العيون ثمناً لتشويه طفل جميل مثل عمر؟.. كنت قد رأيت، من قبل، الكثير من تلك القصص في أخبار الفضائيات، ولكني لم أكن قد رأيتها حيةً أمامي ولا عرفت طعمها المرير في أفواه الآباء الذين يأتون إلى أمريكا ليداووا أبناءهم على أيدي من كانوا هم الداء، فإذا بهم يصبحون فرجة للعالمين. فقد رأيتهم يصبحون، في آلامهم، تحفاً في مزادات، والمزايدون يظنون أنهم يفعلون ذلك بدوافع إنسانية لا غبار عليها.
وجدت تعاريفهم مختلفة، ليس للشرف والأدب فقط، وإنما للحزن وللوطن وللصداقة أيضاً، وكلها تنضبط بالسياقات والقوانين، وزادتها الحرية طيناً على طين، فتجد ما هو ممنوع قد يصبح مسموحاً بلا مبرر سوى أن الحرية لا حدود لها، وكلُّ شيء سيحترق في أتونها قبل أن ينضج. لكن هذه الحرية هي نفسها التي تجعل الجوامع مفتوحة للناس، وتغيير الأديان مثل تغيير الأزياء، والسلوك الفردي أيّاً كان هو من حق صاحبه ما دام لا يتعدى فيه على حقوق الآخرين، بل لا تستغرب إذا ما وجدت شاذاً يقف في باحة الجامعة، يوزع نشرة يدافع فيها عن حقوق الآخرين المدنية، ويساهم ضمن حملة تدعو إلى رفع الآذان في الجامع بصوت عال. وهنا تقع في المأزق الأخلاقي لتعريف الشخص الصحيح أو الشريف، أهوَ أنْ تُصبحَ مختلفاً عني ولكنك تدافع عن قضيتي؟، أم تصبح شبيهاً لي ولكنك خامل ومتحجر ولا تفعل شيئاً؟، أم أنْ تترك الاثنين وتصبح (أنّونيميس)، غير مرئي، فلا تراني ولا أراك؟. وسواء كان هذا أو ذاك وسواء كنتَ بلا حزن.. وبلا وطن.. وبلا دين.. وبلا ملابس.. وبلا أحكام، فلك مطلق الحرية، على شرط أن لا تكسر القوانين الوضعية.. أي القوانين؟ قوانينهم هي التي تُحترم، فكيف يعيش بها العربي هناك وهي التي انتهكت مفهومنا للشرف والدين والوطن؟ هنا قد يقع البعض في المأزق الأخلاقي ويحتار حول ذلك حيرة شديدة. هذه المرحلة، أي مرحلة الحيرة وعدم معرفة ماذا يفعل، هي المرحلة التي تسبق موات القلب لدى المهاجر. إذ عندما تمضي الشهور تباعاً وتزول الصدمة الثقافية ويتكيف المهاجر مع وضعه الجديد، سيدخل المرحلة الثانية من الغربة والتي يموت فيها قلبه وتتبلد مشاعره فلا يعرف طعم يوم الجمعة من طعم يوم الخميس، لينتقل بعد ذلك سريعاً إلى المرحلة الثالثة والأخيرة وهي المرحلة التي يستسيغ فيها الحرية الجديدة والهواء الطيب والرأس البارد، فيصبح مهاجراً أبدياً، ويصبح عليه أن يجد تعريفاً آخر للأدب قريباً من تعريف الشرف الذي التبس معناه هو الآخر بشكل كبير.

أذكر أنه خلال وجودي في جامعة هارفرد، كباحثة زائرة، كان كل من يلتقيني يعتذر مني ويقول إنه كان ضد الحرب ويقول بعضهم سامحينا أرجوك على ما فعلَتْه بلادنا ببلادكم.. وما إلى ذلك. وبدلاً من أن يشعرني هذا بالراحة، فإنه كان يجعلني أشعر بخيبة أمل شديدة.. فكيف حدثت الحرب إذا كان الجميع ضدها أو يعارضها بقوة؟! وجودي هناك ساعدني على اكتشاف ما أراه السبب في أن تحدث الحرب رغم كل ذلك.. إنه، ويا للمفارقة! الديمقراطية.. إذ تعمل حرية الكلام على تنفيس مشاعر الاحتقان والغضب، فكل ليلة، مثلاً، هناك برامج كوميدية تعرض على أغلب الفضائيات، والموضوع المفضل لديهم هو بوش وغباؤه، وحوله تدور استعراضات ذكية وقد تكون بالغة القسوة، فتنبهر بها للوهلة وتقول ما أعظم هذه البلاد التي يُستهزَأ فيها من الرئيس بهذه الوقاحة! ولكن هكذا يُطلق الكوميديون النكات ليغسل الضحك مشاعر الغضب المكتوم في داخل الأمريكي ليذهب إلى فراشه مرتاح الضمير، وقد زالت عنه مشاعر الغضب تجاه الحرب، ويصبح الذين يطلقون الآهات بعيدين عنه آلاف الأميال.
إن السعادة هي هاجس الأمريكي، وهو سرعان ما يلجأ إلى الأقراص المضادة للكآبة إذا ما شعر بأنه غير سعيد. وكثير من المتع التي يسعى الأمريكي الحصول عليها تكون بأقصر الطرق وأقلها تعففاً دون مراعاة لأحزان أو مآسي باقي البشر. ولعل مما يتعلق بذلك أن النزعة الاستهلاكية والتبذيرية هي سمة الحياة، بل أن الحرية نفسها تتحول في الإعلام الأمريكي إلى مادة استهلاكية وتستثمرها البرامج المختلفة لخلق الإثارة، سواء بالمجان أو بدفع النقود للضيوف من أجل كشف الأسرار وفضح الخفايا. وهذا يقود إلى أن الكثير من التجارب التراجيدية أو الإنسانية الحية ذات الموضوعات الساخنة، والتي تُروى من أصحابها على الملأ (من باب التحرر من العقد المكبوتة) تُصبح بمرور الزمن فرجة للعالمين. أما الشرور والفضائح التي يسيل لها لعاب المشاهدين، فإن عرضها وعدم الحكم عليها بالسلب من باب (هاو دير يو جاج) سيجعل هذه الظواهر مقبولة بالتدريج. ففي الخمسينيات من القرن الماضي كان مفهوم العذرية قبل الزواج، في المجتمع الأمريكي، لا يزال سارياً بدرجة معقولة، وكانت العوائل الأمريكية تتسم بشيء من المحافظة إزاء قدسية الزواج وإقامة الأسرة بالطرق الشرعية المتعارف عليها، وكانت الأفلام والبرامج التلفزيونية تعكس صوراً، إلى حد ما محتشمة تتمثل فيها القيم الاجتماعية العقلانية متسيّدةً، والشخصية الأمريكية كانت لا تزال قيد الانضباط بالحس الأخلاقي السليم. ولم يمض إلا عقدان أو ثلاثة حتى انقلبت المفاهيم رأساً على عقب، وظهر الأمريكيون وهم يعلنون فضائحهم على الملأ في برامج حوارية تناقش كل المحظورات. كما وصلت الحرية إلى الحد الذي أصبحت فيه العلاقات غير الشرعية والمثلية معترفاً بها وغير مستهجنة بل مشرعنة.
في هارفرد تجد النخبة التي عارضت الحرب والتي قد تعارض مثل هذه المبالغات الإعلامية وتنتقدها بشدة. فالحق يُقال، أنه عندما حدث العدوان الإسرائيلي على غزة، في الفترة نفسها، ولم يكن الإعلام الأمريكي يعرض من صور الدمار والقتل إلا أقلّها إثارةً لمشاعر الغضب، أخذ بعض المحللين الأمريكيين ينتقدون هذه الظاهرة، ولكن حتى إذا لم تكن الأموال المسيّسة واللوبي اليهودي ومردوخ، حاضرين، فاللاوعي يلعب دوره في الانحياز لإسرائيل. وأنا بوصفي كاتبةً روائيةً أثق باللاوعي أكثر من ثقتي بالتصريحات السياسية، والدليل ما حدث في العراق الذي كان الهدف منه ظاهريا الديمقراطية، ولكن تدمير البلد كان كامناً في اللاوعي، وهو حلم إسرائيلي قديم، كما تعلمون. والمشكلة أن الإعلام العربي يستنسخ الإعلام الأمريكي ويقلده لنعاني نحن من مختلف المشاكل التي تبرز بسبب هذا التقليد وبسبب حدوث هوة، كَتبتُ وكَتب عنها الكثيرون، بين ثقافتنا المحافظة، والإعلام الرخيص الذي يقدم لنا هذا النوع من البرامج، برأيي، يساهم مساهمة فعالة في زيادة التطرف والإرهاب. فع أن التطرف كثيراً ما يكون ردَّ فعلٍ على فعلٍ كما حدث في حرب العراق، فإنه يكون أيضاً ردَّ فعل على مثل هذا الانفلات الإعلامي، وهذا لا يقع ذنبه على أميركا فحسب، ولكن على من يقلدها من بعض الفضائيات أيضاً.
في المقابل، ثمة أشياء جيدة هناك كنت أتمنى لو أنها تُقلد بالفعل، أولها وأهمها أنك في الغرب عموماً تبقى شاباً مدى الحياة، و تبقى محتفظاً باسمك الذي يناديك به الآخرون مهما تقدم بك العمر، وإذا شئت وبذلت مجهوداً طيباً في الرياضة، فستبقى محتفظاً بالشباب الدائم والحياة المريحة والسعادة، فلن يَنظر إليك أحدٌ شزراً إذا ارتديت الملابس التي تحبها أو ركبتَ الدراجة الهوائية، كما لن يناديَك أحد بعم أو بحاج أو بخالة أو بحاجة، كما يحدث هنا، إنما ستحتفظ باسمك الذي يناديك به الآخرون احتراماً لك ولفرديتك. ففي وجود الإنسان هناك يمكن الاستمتاع بالكثير من المزايا، فلا أحد يمنعه من ممارسة عباداته، ولا أحد يجدها متعارضة مع حريات الآخرين. وحتى من يجدها متعارضة لن يحكم عليها بشكل سافر، إذ هو لا يتدخل في شؤون الآخرين. وربما من أجل كل تلك المزايا يحلم الكثير من العرب، كما غيرهم، بالهجرة إلى أميركا والحصول على هذا الوثيقة السحرية حيث تكون سعادة المهاجرين بالجواز الأمريكي ما بعدها سعادة لمجمل ما تقدم من أسباب، ناهيك عن أنها تحميهم من الذل والمهانة في المطارات العربية، ومن أجلها يتم أحياناً حرق المراكب كلها خلفهم.. بل إن بعضهم ينامون في الملاجئ ويتقاضون كوبونات الطعام من أجل عيون البطاقة الخضراء..
ما أن صرتُ في المطار، في عودتي، حتى تعرضت لتفتيش خاص، ووجدت بطاقة سفري قد طبعت عليها عبارة (إكسترا سكرييننغ)، وهو تفتيش خاص يكاد يطال الكثير من المسافرين العرب. وفي الطائرة جلستْ قربي أمريكية اتضح أنها مسافرة إلى بغداد عبر مطار عمّان، فجمعتنا ألفة غريبة وجميلة. بدأتُ أبحث في داخلي عن مشاعر الغضب أو الكراهية تجاه تلك المرأة، ولكني لم أجد شيئاً منها على الإطلاق، لأنها كانت من ألطف الناس وأعذبهم إلى أن خرجت إلى شارع المطار فهبطت من السماء إلى الأرض، واستقبلتني مرة أخرى مرارة الخراب المريع، فقلت مع نفسي: مَن هم أولئك الذين ألقيتُهم في هارفرد إذن؟ وهل يمكن الفصل بينهم وبين من تَسبّبَ بهذا الدمار؟.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *