أنا والآخر

أنا والآخر
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
لماذا (أنا والآخر) وليس (نحن والآخر)؟..
حين أعلمني الصديق العزيز الدكتور حمزة عليوي بنية ثقافية جريدة (العالم) نشر ملف بمناسبة فوز كتابي (نحن والآخر في الرواية العربية المعاصرة) بجائزة (الإبداع الأدبي العربي) التي تمنحها مؤسسة الفكر العربي، وطلب مني أن أكتب شيئاً للملف، وجدتُ من غير الملائم أن أعرض الكتاب، ببساطة لأن العديد من الكتّاب والصحفيين قد قامو بهذا ومرّات عدة. وعليه فقد وجدت من المناسب أن أتكلم هنا عن علاقتي، دارساً وناقداً ومقارِناً، بموضوعة (الآخر) أو، إن شئتم، (نحن والآخر)، ولكن قبل ذلك عن علاقتي بهذه (الآخر) الذي أعني به كلَّ من هو غير عربي، أو لنقل من خارج الوطن العربي، ولكن مع اهتمام حياتي ودراسي خاص بـ(الآخر) الغربي، أوروبياً وأمريكياً، وهو ما قصدته في كتابي المذكور، وفي عموم دراساتي التخصصية في (الأدب المقارن)، كونه جزءاً من هذا الفرع الأدبي.
إذا كانت الدراسات المقارنة تقوم، عموماً في قرنها الأول ووفق المدرسة الفرنسية فيما بعد، على التأثير والتأثر، وإذا ما قبلنا بشيء من التحفّظ، ولكن ليس لنا أن نرفض بالطبع، بعض من تعدى بالأدب المقارن حدود الأدب، فإن ميدان الأدب المقارن الذي لا خلاف عليه هو الأدب أولاً، لكن فروعه أو حقوله قد تعدّت هذا الجانب، نعني التأثير والتأثر، لتشمل الكثير غير ذلك، لاسيما وفقاً للمدرسة الأمريكية. واليوم حين ننظر إلى أهم هذه الفروع أو الحقول نجدها الآتي:
1-دراسة الموضوعات الأدبية، وما يقع منها أو عليها من تأثير وتاثر.
2-دراسة الأجناس الأدبية، وانتقالها ما بين الآداب القومية المختلفة.
3-دراسة التيارات الفكرية، على المستوى السابق نفسه.
4-دراسة الشخصيات الأدبية والنماذج البشرية مقارنة بين حضورها في الآداب المختلفة.
5-المركز والأطراف شعوباً وثقافات وآداباً، وضمن دراسة المهمّش إنساناً وخطاباً.
6-دراسة بلد أو أمة ما كما يصورهما أدب أمة أخرى، وهو قد يتداخل أحياناً مع السابق.
وعادة ما تتداخل هذه الفروع وغيرها ببعضها، لتنبني الدراسة المقارنة الواحدة على أكثر من فرع منها. بقي من الواضح أن محوري اهتمام الأدب المقارن الرئيسين، بكل فروعه، هو الدراسات المقارنة ما بين الآداب المختلفة أولاً، وصورة الآخر ثانياً. وتبعاً لذلك فقد صارا موضع اهتمامي. فكان اهتمامي بالتأثير والتأثّر بشكل عام، ولكن مع التركيز على السرد وتحديداً من ناحية تأثير السرد الغربي في العربي، والذي انطلقت فيه من أطروحتي للدكتورة التي كانت عن تأثير الرواية الأمريكية في الرواية العربية لتتلوها العشرات من الدراسات والمقالات في هذا الشأن. أما اهتمامي بـ(صورة الآخر) وبـ(نحن والآخر) كما تتمثلان في الأدب العربي الحديث، وبشكل خاص في الرواية العربية، فلي وقفتي الآتية.
( 2 )
انتقالاً إلى تجربتي البحثية والدراسية في الكتابة عن (الآخر)، إذن، أعتقد أنها مسيرة واحدة ولكن ببدايات ثلاث، لعل أهمّها الثالثة، كما سآتي عليها. فالبداية الأولى كانت في عام 1980 وتمثلت في عنايتي بالتأثير والتأثر، كما أشرت، كوني عُنيت بتاثير أدب الآخر، وبشكل خاص السرد الغربي، في السرد العربي.
البداية الثانية كانت المشاركة في مؤتمر دولي أقامته، في عمّان عام 2001، جامعتا الأردنية وجامعة بركهام الأمريكية تحت عنوان (العلاقات العربية الأمريكية نحو مستقبل مشرق)، فقد كانت مشاركتي بورقة بحثية تحت عنوان “صورة الشخصية الأمريكية في الرواية العربية في العراق وبلاد الشام”، وهي ورقة وجدتُ نفسي خلالها انفتحُ على عالم العلاقات العربية الغربية المثير بكل إشكالياته، ولكن كما يتمثل في الأدب الإبداعي العربي بالطبع، ليكون ذلك بداية طريق يغريني للسير فيه. لكن سيري هذا لم يأخذ مداه المكثّف ليقترب من أن يكون مشروعاً نقدياً وبحثياً إلا في البداية الثالثة.
هذه البداية الثالثة تتمثل في تجربتي التي أشرت إليها سابقاً، وأرويها في ما يأتي، وكما اعتدت أن أفعل بداية كل دراسة أكتبها في موضوع (الآخر) أو ( نحن والآخر):

التجربة الخاصة الآتية التي اعتدتُ أن أبدأ بها جل كتبي ودراساتي وبحوثي التي تُعنى بهذه الموضوعة:
( 3 )
أتى دخولي إلى الوطن، العراق لأول مرة بعد نكبة سقوط بغداد بثلاثة أشهر، وتحديداً في تموز من العام 2003، وفي أعقاب سبع سنوات من الغربة والبعد عنه وعن الأهل والأحبة([1]). وللقارئ أن يتوقع حجم ونوع الأحاسيس والعواطف والانفعالات التي كان لا بدّ من أن تتفاعل وتصطخب في داخلي آنذاك، وكما يمكن أن تكون في داخل أي إنسان في طريقه إلى وطنه بعد غياب طويل، مضافاً إلى ذلك أن يكون الوطن حينذاك في ظل الاحتلال. والواقع لم أكن قادراً حينها على تصور اللقيا، فقد اصطخبت في ذهني وتلبست مشاعري أسئلة عديدة تتمحور حول الوضع الذي لم آلفه: كيف سأجد الوطن بعد سبع سنوات لم أره خلالها؟ كيف سيكون في ظل أول احتلال مباشر له في أكثر من ثمانين عاماً، وأول احتلال سأراه في حياتي؟ وكيف ستكون مشاعري وأنا أرى المحتل؟ وكيف سأتصرف حين لا يكون من طريقة لتلاقي اللقاء بجنوده؟ إلى غير ذلك من هذه الأسئلة. وتفجرت تلك الانفعالات بعنف وارتبكتُ أيّما ارتباك مع أولى خطوات أخطوها على تراب الوطن عابراً الحدود البرية، حين لمحت أول مظهر كنت أُمنّي نفسي عبثاً بأن لا أراه، عسكرياً أمريكياً يقف إلى جانب بضعة موظفين عراقيين. كان الوحيد الذي يحمل سلاحاً طالما رأيته في الأفلام السينمائية والوثائقية والإخبارية على شاشات التلفزيون يحمله الأمريكيون، عسكريين وغير عسكريين، ويفعلون به كلَّ ما هو مسموح وممنوع مما قد يتعدى لا الواقع الذي نعرفه فحسب، بل حتى المديات التي تصل إليها مخيّلاتنا، حين يكون هناك إنسان واحد فقط هو الفرد الأمريكي، وكل من عداه قد يقتربون، ضمن أُطر تعامل ذلك (الإنسان) الإمريكي معهم، من الإنسان وقد لا يقتربون. وهنا، وفي ظل خوفي على بلدي وأناسي، تذكرتُ رسالة قائد عسكري أمريكي إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بعد احتلالها للفلبين نهايةَ القرن التاسع عشر. ففي سنة 1898 اجتاحت القوات الأمريكية الفلبين بدعوى جلب الديمقراطية إليه، وعندما قاومها الفلبينيون، خاطب الجنرال الأمريكي سميث جنوده قائلاً: “إنني لا أريد أَسرى.. أريدكم أن تحرقوا وتقتلوا، وكلَّما زدتم في الحرق والقتل جلبتم السرور إلى قلبي”([2]). وفعلاً ارتكبتْ القوات الأمريكية جرائم بشعة، مستخدمةً ضد الفلبينيين الحرب الجرثومية، فنشرت بينهم الكوليرا، وقتلت مئات الألوف منهم، ليكتب الجنرال الأمريكي بعد ذلك رسالة إلى رئيسه قائلاً فيها: “أُطمئنكم بخلوّ البلاد من المقاومين الفلبينيين، لأنه لم يعد هناك أصلاً من وجود للفلبينيين”.
وهكذا كنتُ قد نويت الابتعاد عن ذلك العسكري الأمريكي، ولكني لم أعرف كيف أتصّرف وقد تفجّر الغضب في داخلي حين وجدتني مضطراً إلى الاقتراب منه، إذ كان يقف قرب شباك خَتْم جوازات السفر. ولكن عند اقترابي منه بادر إلى سؤالي بودّ غريب: هل أنت من العائدين إلى الوطن؟ فأجبت بكلمة واحدة: نعم. فعاد ليقول بالود نفسه: أهلاً بك في وطنك. وأحسسته يركّز على (وطنك)، وعندها فقط تأملته فانتبهت إلى حداثة سنه.. كان في الواقع صبياً أكثر منه رجلاً مقاتلاً، فتوقعت أن يكون مجنداً وليس عسكرياً محترفاً. في الواقع هو، أكثر من ذلك، بدا واضحاً، وهو يكلمني، يحاول أن يكون ودوداً، بل لا أبالغ إن قلت كان خجولاً ومتردداً. هنا نبعت في داخلي، إلى جانب الغضب والحقد الطبيعيين عليه محتلاً، رؤيةٌ إنسانية يتمثّل لي من خلالها، إلى جانب المقاتل المعتدي المحتل والمهين لوطني، الإنسان العادي أيضاً الذي يمكن أن يكون، ومن الطبيعي أن يكون، في أمريكا وبين الأمريكيين، وقبل ذلك أو بعده في الغرب وبين الغربيين.
( 4 )
من هذه التجربة الإنسانية القصيرة، وهذه الرؤية المزدوجة، المتناقضة ظاهرياً، بدأتُ التفكير في البحث في هذا الجانب. ولأن الوعاء الأكثر غنىً خارج نفس الإنسان ذاته، تعلقاً باصطراع مثل هذا الذي اصطرع في داخلي، كان الأدب، الذي هو بالطبع المعبر عن النفس الإنسانية، ولتخصصي واهتمامي الأدبي والنقدي بالدراسات الأدبية المقارنة عموماً وبموضوعة الآخر أو (نحن والآخر)، انطلقتُ في تأليف أحد أهم كتبي، بالنسبة لي، “نحن والآخر في الرواية العربية المعاصرة، الذي يأتي بعد سلسلة عديدة من المقالات والبحوث في الموضوع، يساعدني في ذلك أنني اشتغلت فيه وأنا في أحد مواطن الآخر، أعني بريطانيا حيث كنت أقضي سنتين، 2009-2011، أستاذاً زائراً في معهد الدرسات العربية والإسلامية بجامعة إكستر جنوب إنكلترا، قضيت فترة لا بأس بها في الولايات المتحدة الأمريكية، كما رأيت بلداناً غربية أخرى، واحتككت بأناسها وأناس بلدان أخرى.
منذ تلك البداية ولحد الآن نشرت في هذا الموضوع كتابين وفصولاً ضمن كتب ودراسات وبحوثاً وأوراقاً بحثية ومقالات عديدة، وأحدها الكتاب الذي تحتفي به ثقافية جريدة (العالم)، وقبله كتاب “الآخر في الشعر العربي الحديث” الفائز بجائزة كانو العربية في البحرين.

ردة فعل د. عبد الرزاق


[1]) اعتدت أن أبدأ كل دراسة أو كتابة من كتاباتي عن (الآخر) أو (نحن والآخر) بهذه البداية القائمة على التجربة الشخصية، لما أجد فيها من أهمية، سواء أكان ذلك في تفسير وفهم صور الغرب والغربيين، في تشابهاتها واختلافاتها بل تناقضاتها، في الأدب العربي الحديث، أم في فهم هذه التشابهات والاختلافات والتناقضات، أم في ما تجمعه من واقع نعيشه ونخبره، ومن كتابات سياسية وفكرية نتربى عليها، وعالم متخيّل نقرأه.
[2]) موقع (الموسوعة الشاملة)، www.islamport.com

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

دراسة عن دروب وحشية

تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *