أمُّ بارت وحميدة نعنع.. والبنيوية
د. نجم عبدالله كاظم
حين يقوم امرؤ، ناقداً أم أديبا أم مفكراً بمحاولة لتبسيط كاتب أو كتاب أو نظرية أو ظاهرة أو مفهوم ما، فإن ذلك لا بد ان يكون مفيداً لقراء بعينهم، وهذا ما توسّمناه في محاولة الكاتبة حميدة نعنع الطريفة التي استهدفت فيها، كما قالت في بابها في مجلة (ألف باء) العراقية “من دفاتر امراة”، ومن خلال مقالتين، تبسيط رولان بارت وبنيويته لنا. استبشرنا حل عقدة طالما أتعبت القراء والكثير من الكتّاب بقولها: “اليوم سأقول لكم من هو بارت كما فهمته..”. هي إذن اصابت حين شخّصت جهل الكثير من القراء العرب بالبنيوية، وافتقاد الكتابات العربية عن بارت إلى الكثير من الدقة والمعرفة وكونَ فَهْم ما ذهب إليه هذا الناقد في كتاباته ليست ملك عامة القراء، بل بظني أنها ليست ملكاً حتى لخاصة القراء، واعترف هنا باتي واحد من الذين كنت أبحث عن وسيلة أفضل لفهم افضل لبارت والبنيوية، حتى حسبت أن الوسيلة جاءت على يد كاتبتنا وعبر صفحتين ممتلئتين هما بعض ما خرجت به بعد عناء كبير وجهد متواصل بذلته في سبيل تحقيق مقابلة مع الناقد الفرنسي تستطيع من خلال تقديمه إلى العرب. فهي تخبرنا في موضوعها بأنه قد استغرق منها تحضير الأسئلة فقط ثلاثة أشهر، بل هي لم تستطع تحقيق هذه المقابلة المأثرة إلا بعد محاولات عديدة تُوجّت بتدخل والدة بارت التي ساعدتها لتحقيق ذلك وقضاء يوم كامل معه، والأروع من ذلك أن الحوار نفسه مع الكاتب قد استغرق من حميد نعنع نهاراً كاملاً تخللته استراحات وتجشم عناء الذهاب معا إلى مقهى (الدوماغو) في شارع السان جرمان بباريس، مع أننا لا ندري في الواقع ماذا يشكل هذا المقهى للبنيوية والبنيوين؟
وبعد، فما الذي عرفناه عن بارت بعد رحلتنا مع الكاتبة حميدة نعنع؟.. إنه كثير بدون شك، بل لعل هذا الموضوع هو الآن مفتاح تعرُّفِنا على رولان بارت وبنيويته. فقد عرفنا أنه كان ناقداً وهذه أولى المعلومات المركزية التي كنا نجهلها، وعالم اجتماع، ومؤسس علم الدلالة (السيمولوجيا)، وليس مهماً ما يعنيه علم الدلالة، ومدير أبحاث في (الكوليج دي فرانس)، ومؤلف كتب كثيرة. أهمها في رأي نعنع “شذرات من خطاب عاشق”. وعرفنا أيضاً أن بارت كان كاتباً رائعاً كبروست وجيد، وبأهمية سارتر ايام الحي اللاتيني. وعرفنا أنه “المراقب الذكي، والفاضح الثاقب الذي يقف على مفرق طرق العلوم المختلفة والمجالات المتنوعة، لكن الأدب يبقى همَّه الأول”. ثم تأتي واحدة من أهم المعلومات في فهم بارت والبنيوية، فقد عرفنا، من خلال مقال نعنع، أنه يعيش مع والدته في الحي السادس بباريس، وأنه كان يذهب إلى المغرب من وقت لآخر لتمضية إجازاته، كما عمل مدرسا هناك، وكانت له علاقات ايجابية مع بعض أشكال الحياة العربية. والأهم من ذلك كله بـ”أن ليس هناك اكثر روعة من ذلك الرجل المهذب جداً”.
إنه لجميل بلا شك ان نعرف كل ذلك عن بارت. ولكن بقي أن نسجل على الموضوع مأخذاً واحداً، وهو أن الكاتبة، بعد أن وعدت القراء الذين يشكوا الكتّاب العرب من جهلهم بالبنيوية ورائدها بان تُقدِمَ على مغامرة لتبسيطها لهم، لم تقدم لنا شيئاً يتلاءم مع مقاسات الكلمات الكبيرة التي استهلّت بها موضوعها، بل هي لم تقدم أكثر من سيرة مختصرة وحسن سلوك لبارت وأمه- باركها الله أو رحمها. أما اذا كانت السيدة الكاتبة تعتقد أن المعلومات التي بثتها بين ثنايا الموضوع هي فقط ما يجهله القراء العرب، فأعتقد أنها واهمة تماماً، بل هي كانت بحاجة بالتاكيد الى موعد غداء آخر مع رولان بارت وأمه، لولا فوات الأوان، لكي تعرّفنا بالجوانب الاخرى التي ربما لم تشكل عند الكاتبة أهمية حين كتبت موضوعها، وهي في الوقع كل شيء، نعني أدب الرجل ونقده ونظريته..
مجلة (ألف باء)- بغداد، 1989
شاهد أيضاً
دراسة عن دروب وحشية
تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم أنفال_كاظم جريدة اوروك …