تداخل العوالم
في رواية “زيارة سجى” لأميمة الخميس
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
حين يتقدم رواية “زيارة سجى”([*])، للروائية السعودية أميمة الخميس، قولٌ للشاعرة الأمريكية إميلي ديكنسون عن الأمل، نفترض أن يكون لذلك علاقة بالرواية، فهل كان ذلك فعلاً؟ لن نقول لم يكن، بل لم نره فعلاً، ولكن لعله مقصود ضمن كل ما يجري وبمواجهة كل ما تتعرض له الشخصيات، وبالشكل الذي تعبّر عنه الشاعرة حين تقول:
“الأمل (…) ذلك الشيء بالريش على غصون أرواحنا، يغنّي الحقيقة بلا كلمات، ولا يتوقف أبداً عن الغناء.”- الرواية، ص5.
وإذا ما كانت الرواية، وهي متعددة الأصوات ومروية على ألسنة شخصيات، تقدم عالمها هذه الشخصيات أو عوالمها، فإن عوالم النساء، هي أبرزها، وضمن ذلك، وتبعاً له، هي تُقدم صراحةً أحياناً وضمناً غالباً، قضية المرأة وما تلاقيه من تمييز في المجتمع الشرقي. كل ذلك انطلاقاً من رؤية نوعية خاصة يحملها الخطاب الروائي، وبشكل خاص أداته الرئيسة المتمثلة بشخصية (سجى) الغريبة، خصوصاً أن هذه الرؤية تكاد تكون هي الرواية، بل لا نبالغ إن قلنا إننا نستطيع الكلام عن هذه الرؤية وتجاوز الكلام عن أي جانب آخر في الرواية، غير الشخصيات، دون أن يتأثر تقديمنا وقراءتنا لها سلبياً. فمبكراً يأتي تعبير (هند) مثلاً:
“أمي استطاع أبي أن يدفع مهرها وأخذَها، وبالتالي لم يحسدها، لكنه رشف رغوة الصبا منها وغادرها كوب قهوة بارداً ومملاًّ.”- الرواية، ص10-11.
ومع أن محور الرواية هي الرؤية الفكرية الخاصة بالمرأة، وتبعاً لذلك هي افتراضاً مما يمكن أن نجده في الكثير من الروايات العربية، ولاسيما النسوية منها، فإنها رؤية خاصة بطبيعتها غير العادية، وبالتعبير عنها عبر مسار الأحداث وأزمات الشخصيات، وبمن تعبرّ عنها بشكل خاص في الرواية، نعني مرة أخرى (سجى). وتعلّقاً بالجزء الأخير من كلامنا، يأتي المعبّر عن هذه الرؤية شخصية غير عادية، متخيّلة أو أسطورية أو غيبية والتي لا نعرف- وربما العبرة تكمن في عدم المعرفة هذه- إنْ كانت ذكراً أم أنثى، وإن كانت ملاكاً أم جنّياً أم روحاً، وإن كانت متخيّلة من الشخصيات أو هي حقيقية ضمن عالمهم. ويعمّق غموض هذه الشخصية قولها:
“اسمي (سجى) لكن شيفرة أرقامي هي (ويجا)، وحتى لا يبدو هذا الأمر غامضاً بالنسبة لكم هو كالفرق بين اسم الانسان ورقم هاتفه، سأبقى خاضعاً لمشيئة هذه البشرية (الفانية) إلى أن أعود إلى ملكوتي، ما من سبيل سوى هذه الطرقات المتصلة على سقف كرتونة لعبة (ويجا).”- الرواية، ص25.
ثم:
“الكائنات الكونية تسافر حرة عبر الأزمنة والأكوان مستمتعة بميادين المجرّات وبلاط النجوم الباذخة ودهشة الاكتشاف وجلال الملكوت دون بطاقة هوية، إلا أن تكون رديئة حظ مثلي أنا (سجى) المعتقل منذ ثلاثة أشهر بين حرف وسقف. هل أنا معتقل مذكّر أم معتقلة مؤنث؟ لا أندرج تحت ثنائية التكاثر، لكن المشكلة أن سبيلي الوحيد للتعبير لكم هي أبجدية الفانين التي شطرها الفكر الثنائي بشكل صارم.”- الرواية، ص43.
المهم أن الروائية جعلتها تمتلك قدرات مراقبة الآخرين، نعني بقية الشخصيات، والأحداث أينما تقع، بل كل شيء. في النتيجة تأتي رؤيتها رؤية للإنسان والحياة والوجود، مع اقتراب من أن تكون وجودية، ولكنها لا تصل إلى أن تكون عبثية أو عدمية، تشترك في بلورتها بقية الشخصيات، والروائية (أميمة) نفسها في موقع متأخر من الرواية من جهة أخرى.
( 2 )
إذا كان من الطبيعي أن تقدم الرواية رؤية تتقدم على كل شيء آخر، كما رأينا، فإن هذا لا يتعارض ومع القول إنها رواية شخصيات، ببساطة لأن غالبية هذه الرؤية مقدّمة من خلال هذه الشخصيات وعنها. ولكن هذه الشخصيات لا يكتمل رسمها من خلال الرؤية التي أكثر ما تعبّر عنها (سجى)، قبل دخول الكاتبة من خلال أحد الفصول الأخيرة من الرواية، وقد خصصته لنفسها، وجعلته تحت عنوان (أميمة)، فواضح أنها المؤلفة، التي يخيّل لي أنها لم تجد في (سجى) وفي شخصيات أخرى منحَتْها فصولاً ما يكفي لإكمال رؤية الرواية. فكل ما ينثار فينا من استغراب واستفهام وعدم فهم أو فهم منقوص أو تساؤلات، في فصول الرواية الأخرى نجد بعض إجابات وتوضيحات له في فصل (أميمة)- الكاتبة- في الصفحات الأخيرة. ولكن حتى مع هذه الإجابات والتوضيحات، يبقى غير قليل من علامات الاستفهام والحيرة قائمة تتردد فينا، ببساطة، وكأن الكاتبة نفسها تبدو ليست مقتنعة تماماً بما تحاول أن تجيب به. ويبدو أن الغموض الذي عملت عليه الكاتبة وجعلته أحد سمات الرواية، صار غامضاً عليها هي نفسها، وفي هذا، وحين يدخل القارئ في عملية التلقي والفهم والتأويل، جمالية خاصة. ولكن، بتلقي الرواية يكتسب بعض جمالياته من هذا، ونحن نعرف أن الرواية، والعمل الإبداعي عموماً، كثيراً ما يمتنع عن تقديم أجوبة، بل أكثر من ذلك هو يثير أسئلة تدخل في زيادة تعدد وجوه القراءة والتلقي والتأويل، وهذا ما نرى أن “زيارة سجى” قد توفّرت على ما يقود إليه. وهكذا يكون متوائماً مع مسار الرواية ومع شخصيتها المركزية (سجى)، أن تعترف (أميمة) الشخصية والروائية بالغموض الذي جعلتنا فيه، وربما وجدت هي نفسها فيه:
“كلما توغّلتُ في غابة السرد، بدأت أستجيب للغة الكونية القائمة على المصادفات والإشارات والمفارقات حولي، وأعلم بأن الأمر ليس محض خيال نسكبه على الورق ويظلّ هناك، بل هو أحجية ومغاليق أعمق وأكثر تعقيداً.”- الرواية، ص372.
امتداداً مع طبيعة الرواية، تكاد العوالم الداخلية للشخصيات تحضر أكثر من العالم الذي هي فيه، بل حتى حين يحضر العالم الخارجي الحقيقي نراه نحن غالباً من خلال تداعيات تلك الشخصيات وتفكيراتها، مما يعني أن يكون لتلك الدواخل الذاتية تأثيراتها في الصور التي تُقدم به. ولعل هذا ما جعل أفكار الشخصيات المختلفة ورؤاها للإشياء تهيمن بدلاً من أن تتجسد تلك الأشياء وتصل تلك الإفكار من خلال سرد الأحداث. مع كل ذلك، كأننا بالكاتبة لا تريد من الرواية أحداثاً ولا شخصيات ولا موضوعاً محدداً، بل أن تعبر عن مجموعة أفكار عن البشر والوجود والحياة وربما التأريخ.
( 3 )
ربما يتوافق أكثر مع مركزية الرؤية في الرواية، وتعلّقاً بها أهمية الشخصيات، أنْ جاءت الرواية بضمير المتكلم، وتحديداً على ألسنة بطلاتها النسويات: (هند، وماما لولوة، وسجى)، ويضاف على ذلك أن صارت الرواية متعددة الأصوات، بما يعني أنها مروية برواة متعددين هم هذه الشخصيات. وقد بُنيت الرواية بنية جمعت ما بين التقليد والتجديد، والأخير قد يحضر فيه شيء، وإنْ كان قليلاً، من التجريب المقنع، خصوصاً حين اعتمدت الكاتبة بنية الخطوط المتعددة المروية من هذه الشخصيات المتعددة بتماسك بنائي لا يشوبه إلا القليل مما أفرطت فيه الكاتبة من إطالة ومطّ في بعض أحداثها. في كل الأحوال قادتْ الكاتبة خطوط الرواية لتلتقي ويحل كل خطّ منها ما قد يكون غامضاً أو غير واضح في خط آخر وصولاً إلى الانفراج في نهايتها. ومن جميل ما يسم هذه السردية وجماليتها أن لاميتافيزيقية هذه الشخصية، وربما الأدق أن نقول الشخصية المركزية، لا تحول دون الإقناع. وتمشياً مع ذلك جاءت طبيعة اللغة السردية وخصوبة إيحاءاتها، بل لعل من أهم ما يُحسب للرواية، إضافة إلى ما ما سبق، هو لغتها السردية المُبهرة التي نحسها وكأنها تجسد الأحداث وتطوّرها، حتى حين تكون مباشرة أحياناً وإيحائية أحياناً أخرى، وبما يتواءم مع طبيعة الرواية في واقعيتها من جهة ولاميتافيزقيتها من جهة أخرى، كما ربما أكثر ما يتمثل في خاتمتها المعبّرة:
“زيارتي (زيارة سجى) زيارة عجيبة.. قلت فيها وسمعت، أصبحت خالقاً ومخلوقاً، عبداً وسيّداً، محلّقاً وأسيراً قبل أن أنطلق نحو حريتي، زيارتي كانت قطعة من دنياهم، دنياهم المغوية العذبة….. العذراء المنتهكة….. أرخبيل الجزر المكتنزة بالمتع والشهوات المكفّنة بالقبور والأموات.
“زيارة سجى ما كانت سوى انخطافة… ما بين إغماضة وإفاقة.”- الرواية، ص401.
هي نظرة تجمع ما بين الواقعية والوجودية وربما العدمية والعبثية، لكنها جميعاً تنطوي على شيء من عدم الفهم والاستغراب والغموض، وكل ذلك منح الرواية نوعاً من الخصوصية.
الواقع أن الكاتبة، في آخر وحدة من الرواية، تقترب من التفرّد الذي ننشده، بدرجة ما، من أي روائي، بل من كل رواية حين تُجمل الرأي بالإنسان، من خلال رؤية (سجى)، هذا المخلوق الفاني الذي يكدّ ويسعى في حياته وهو يعرف أنه سيموت عاجلاً أو آجلاً. هي نظرة تجمع ما بين الواقعية والوجودية وربما العدمية والعبثية، لكنها جميعاً تنطوي على شيء من عدم الفهم والاستغراب والغموض. وتمشياً مع هذا من جهة، ومع شخصية (سجى) الغريبة وطبيعتها من جهة أخرى، هيمنت الأسطورة والغيبيات: شخصيات عالمين أو ربما ثلاثة تتداخل فيما بينها تداخل عالمَيْ الإنسان الحقيقي أو الواقعي، وما بعد الحقيقي أو الواقعي، عالم الغيب من جن وما أشبه، كما يتمثل في حضور البشر كما نعرفهم و(سجى) الذي لا نعرفه من يكون أو تكون، ولكنه، في عُرفنا وكما يعرفه البشر في تراثهم الشعبي، دخول الجن حياة البشر ودواخلهم، وهو، كما يصنفه العلم، اضطرابات نفسية أو عصبية تمس دواخل البشر أو الشخصية فتضطرب لينشأ عن ذلك الوهم والهلوسة وانفصام الشخصية والعٌقد المختلفة. ولا ندري إن كان مجيء اسم هذه الشخصية الغريبة متعدد الأشكال: سجى، وسجى (ويجي)، و(ويجي) سجى، وسجى و(ويجا) هو محاوله للتعبير عن هذا كله من خلال ما يحتمله من دلالات- ولا بد أن تكون لها دلالات مختلفة فعلاً، وإلا ما جاءت بهذا الشكل- لكن معرفتها تحتاج إلى تفرغ القارئ لها على حساب كل ما عداها في الرواية. ربما يرد اسم (ويجي) مرة و(ويجا) مرة يعني أنه ذكر وأنثى في الوقت نفسه. ربط (سجى) بـ(ويجي) أو (ويجا) التي هي لعبة سحر، ويرتبط بـ”الهواء الأثيري حول جسد (هند). فمنذ استدعتني أصبحتْ الآن هي سيدتي، هي من أُعوّل عليها لتصرفني وتعتقني”- الرواية، ص43.
[*]) أميمة الخميس: زيارة سجى، رواية، دار مدارك للنشر، دبي، 2013.