أشقاء الألفية الثالثة
ميسلون هادي
شهدت الألفية الثالثة انتشارا كثيفا لجيوش الهواء الخفية، التي تداهم بيوتنا عبر شبكة الاتصالات الالكترونية المسماة اختصارا بالأنترنت، والتي شكل انتشارها الانفجاري بين الناس وسيلة مهمة من وسائل الاتصال السريع جعلت المعلومة الثقافية، ناهيك عن المعلومات الأخرى، في متناول الجميع عبر خدمات موقعية متعددة تفتح لها نوافذ على المستخدمين، وعلى الجهات الأربع، فنطالع فيها وجوه قد نعرفها وقد لانعرفها وأسماء مألوفة وقديمة وأخرى جديدة نتعرف عليها لأول مرة، فنقرأ نصوص أولئك وهؤلاء و نتأمل قصائدهم وقصصهم ومقالاتهم ونحاورها بالكتابة أو مع أنفسنا لنكتشف، من خلال ذلك، صلات القرابة الروحية بيننا وبينهم وأرومة الأفكار الواحدة التي تجمعنا وتوحدنا بل التوارد والتخاطر بين تلك الأفكار والكتابات. فقد تقرأ قصيدة جميلة تتمنى لو أنت كنت كاتبها، أو رواية فلسفية تشبه ما في جعبتك من تأملات، أو مقالة سياسية تنزل على قلبك كالماء البارد لأنها تترجم حرفيا مافي رأسك من أفكار وانطباعات. ولو كان العالم النفسي يونغ حاضرا بيننا الان، لوجد في أهوال هذا العصر الالكتروني تطبيقا آخر من تطبيقات نظريته التي تقول أن البشر الذين يعيشون في زمان واحد تردهم الأفكار نفسها أو يفكرون بالطريقة ذاتها حتى وان اختاروا العيش في أمكنة مختلفة.وفي ترجمة جميلة للكاتب والمترجم المبدع عدنان المبارك لقصيدة عصا بورخس يصف الأخير علاقته بصانع العصا التي يحملها ويقول أنه ينظر اليها ويفكر بالحرفي الذي لوى الخيزران ولكنه لايعرف ان كان ذلك الحرفي مازال حيا أم مات ثم يقول في تتمة القصيدة: لن نلتقي نحن الاثنين أبدالقد ضاع هو بين الملايين التسعمائة والثلاثينلكن هناك شيئا يجذب اليه.وليس بالأمر غير الممكن أن أحدهم فكر بهذه الصلة منذ قديم الزمان.وليس بالأمر غير الممكن أن يكون الكون بحاجة الى هذه الصلة.وهذه الصلة التي تحدث بورخس أن الكون بحاجة اليها، تبدو لنا بين ذوي القربى الثقافية متواصلة بشكلين. أولهما أفقي راهن بين أبناء الجيل الواحد والأجيال التي تسبقه وتليه، وثانيهما عمودي تاريخي موصول من أقدم أجيال الكتاب وأوائل مبدعيهم ونحاتهم ورواتهم الى يومنا هذا. فالذي نجا ووصل الينا بعد أن (مات المؤلف) قرأته البشرية جمعاء وتأثرت به، والأدباء منهم على وجه الخصوص انفعلوا به وتناصوا معه… وربما أعادوا انتاجه بهذه الطريقة أو تلك، دائرين في فلك دورة لاتنتهي من التأثير والتأثر، ومن الفعل ورد الفعل، لحين وصلوا في هذه اللحظة من التاريخ إلى هذا المنتج الذي ينظر اليه على أساس انه عصري أو منتم للحداثة، ولكنه لم ينكتب من تلقاء نفسه، وانما جاء نتيجة لهذا التراكم والتواصل ووقوع الحافر على الحافر. لقد كنت واحدة من الذين يتباكون على انحسار الكتاب في عصر الفضائيات، ولازلت أفعل ذلك أحيانا من باب الرومانسية، التي هي جزء من طبيعة الكاتب، ولكن لا أجد بدا من الاعتراف بأن الانترنت العجيب هذا، جعلنا نقرأ لكتاب كنا نسمع عنهم، ولكننا لانقرأ كتبهم ولانعرف أعمالهم، بسبب ظروف بغداد المعروفة سابقا ولاحقا، أما ونحن نراهم عبر شاشات المواقع،فنشعر بأنهم ليسوا غرباء ولامجهولين، بل أحبة وأقرباء نعرفهم ويعرفوننا ومن المؤكد أننا في هذا المكان الواحد نلتقي وان من بعيد.وأحيانا أقول لنفسي من باب (الخيال العلمي) وأنا أمشي في الشارع أي الكلمات تطير من فوق رأسي الان؟ وإلى أي بريد هي ذاهبة في القمر الصناعي ؟؟ ثم أتساءل ياترى هذه الرسائل الالكترونية التي تدور حولي الآن ولاأراها من هو كاتبها؟ وما هو موجود فيها؟ وهل يأتي اليوم الذي نستطيع فيه أن نقرأها مباشرة دون الحاجة إلى وسيط وذلك بأن تهسهس في رؤوسنا كما تفعل الجن؟؟ فماأغربه هذا العصر العجيب… وماأكثرهم أشقاء الروح الذين تدور أسماءهم حولنا في الهواء ولا نحتاج لكي نراها إلا إلى هذا القمقم الذي يجمعها في مكان واحد. 2010