أسئلة سامي مهدي الكبيرة
دراسة لديوان الشاعر “الخطأ الأول”
أ د. نجم عبدالله كاظم
أستاذ النقد والأدب المقارن والحديث
كلية الآداب – جامعة بغداد
الخطأ الأول
حين يُذكر الشاعر سامي مهدي فغالباً ما تُذكر معه القصيدة القصيرة جداً التي قد يكون المقصود بها ما يُسمى “قصيدة الومضة”، وإذا لم نتفق على هذا المقصود، فإنها، في أقل تقدير تلتقي بقصيدة الومضة. ومن هنا يكون صحيحاً القول: “لعلّنا لا نجانب الصواب إن زعمنا أننا نزداد اقتراباً من تسمية القصيدة الومضة كلما ازداد النص كثافة وتركيزاً وحقق القصد الذي يرومه الشاعر بجملة أو بسطر، وكلما عبرت عن لحظة شعورية مكثفة، بحيث تخلق حقلاً من الدلالات والإيحاءات والقراءات أكبر من كلماتها القليلة([1]). على أية حال، لقد عرفنا هذا الشكل من القصائد في دواوين هذا الشاعر منذ منتصف السبعينيات. صحيح أن شعراء آخرين عُرفوا به، مثل يوسف الصائغ وأمل دنقل ونزار قباني ومحمود درويش ورعد عبد القادر وإبراهيم نصر الله وعدنان الصائغ وغيرهم كثيرون. لكن قصيدة سامي مهدي القصيرة تميزت عن تلك التي قرأناها لغيره ممن، على شاكلة يوسف الصائغ، اهتموا بالمفارقة وبالضربة التي تقترب مما نجده في القصة القصيرة جداً، وجاء تميزها بمعالجتها ما يمكن أن نسمّيها الموضوعات الكبيرة من فلسفية وفكرية، لاسيما الوجودية التي قد يعجز مثل هذا الشكل عن استيعابه عند شعراء آخرين. فإذا كانت أبرز موضوعات الوجودية المتكررة في نتاجاتها الأدبية هي: الحرية، وامتلاك القرار، والمسؤولية، والتناهي، والاغتراب، والذنب، والموت، والارتماء، إلى جانب “ذلك الشعور الحاد الغريب الذي لا يمكن تعريفه والذي يظهر بوضوح عند معظم الوجوديين ابتداء من كيركجرد”([2])، فإن بعض هذا نرصده في قصيدة سامي مهدي القصيرة، وإن لم يكن مهيمناً دائماً. ولهذا ، ولكي لا نتجنى على تجارب الآخرين أو يُفهم هذا منا، عمدنا أصلاً إلى فصل قصيدة الشاعر القصيرة جداً عما سُمّي بقصيدة الومضة التي كتبوها هؤلاء، وكتبها سامي مهدي أيضاً كما قد نجد القليل منها في ديوانه الذي نحن بصدد قراءته نقدياً هنا، كما أنها ليست مما بدأنا نعرفه في السنوات الأخيرة مترجماً عن الأدب الياباني مما يعرف بالهايكو وشاعره الرائد هو ما تسوو باشو (1644- 1694)، خصوصاً أن هذا الديوان لا يضم القصائد القصار فقط. هنا ربما ليس من ضير أن نشير إلى أن قصائد سامي مهدي، سواء أكانت قصيرة جداً أم قصيرة إم طويلة، قادرة عادةً على التعبير عن كل شيء، كما أنه يخترق كل الحدود ويقطع كل المسافات، يجتاح كل العوالم، المادية الخارجية منها واللامادية المتوغلة في أقاصي دواخلنا، أو المحلقة في آفاق خيالنا. ونحن إذ نشير هنا إلى هذا فليس لانفراد الشاعر به، بل لتميّزه وخصوصيته لديه، فهو في الواقع متحقق عند الكثير من الشعراء، بل “إن في الشعر إمكانات للتعبير عن العالم بالذات، بما فيها من رؤى وأحلام وانكسارات، لا نتوقعها أو لا نريد الإفصاح عنها، يمكن أن تخرج، بالرغم منا، لأن الشعر لا يغترف من عالم الشعور وحده ولا عالم الانسجام ، بقدر ما يستند لهذا كله ولعوامل اللاشعور والمنتاقضات في آن معاً”([3]).
**
يتوزع ديوان الشاعر سامي مهدي “الخطأ الأول”([4]) على أربع مجموعات هي: “هو دائماً”، و”الخطأ الأول”، و”هوامش على متن الخطأ”، و”قصائد أخرى”. وربما تشكل هذه المجموعات ما يشبه الدواوين الصغيرة، لكنها في كل الأحوال لا تكتسب استقلاليات واضحة، وعليه يكون منطقياً الكلام عن قصائدها على أنها قصائد ديوان واحد، كما أراد لها الشاعر بالطبع، وانطلاقاً من قواسمها المشتركة الكثيرة والواضحة، والتي تلمّح، وقد تفصح عنها القصائد الأولى، حتى وإنْ بدت ظاهرياً غير ذلك أحياناً، كما هو حال القصيدة الأولى مثلاً:
لن أقول الكثير
ولن أُفشيَ السرَّ للريح أو للشجر
وسأقبل ما وعدَتْني به صحفُ الأولين
وما أنبأتْ عنه عرّافةٌ في الغجر
وأروّض نفسي على الصمتِ،
أصغي إلى كلّ همهمةٍ وحفيفٍ / ص6
فإذ تنسل هذه القصيدة من شيْب الستينيات من العمر التي يعيشها الشاعر، فإنها لتقطر برقة الحسّ الشبابي نفسها التي عرفناها في شعره مذ أن كان في الثلاثينيات والأربعينيات من عمره. وهو حين يقول أو يعلن أو يوحي بما يريد فإنه يفعل ذلك بما يشبه الهمس أو حديث النفس فينتقل ذلك إلى وجداننا من حيث لا نحس أنه منه بل منّا، وهذا يكاد يكون مع كلِّ قصائده. والمفارقة هنا، كما لمّحنا إليها من قبل، هي أن شعره يُطلق، ولا نريد أن نقول يفجّر، بهمساته هذه، مواقف مواجهة فلسفية وفكرية هي أعمق وأصعب من أن يستوعبها الهمس والعذوبة عادة: الوجود، والإنسان، والحياة، والموت، والبعث.. . ولعل هذا واحدٌ من خصوصيات شعر سامي مهدي الذي امتلك حنكة الجمع بين شكل القصيدة عموماً، والقصيرة خصوصاً، وهذه الموضوعات الكبيرة التي من المعروف أن القوالب المناسبة لها عادة القصائد الطويلة وربما الملحمية. فنحن نعرف أن آخرين ما استطاعوا غالباً المحافظة على مثل هذه الرقة والهمس وعذوبة الأسلوب والإيقاع والألفة في والمفردات الخاصة التي حافظ عليها سامي مهدي، حين اقتحموا هذه الموضوعات الفلسفية والفكرية، فصارت أشعارهم، بما في ذلك القصائد الطويلة، صعبة وأحياناً تفتقد الكثير من شاعرية الشعر- إن صح التعبير- حتى حين كانت تجيء قويةً ومصنوعة بحذق وتمكّن، كما هي حال بعض أشعار شعراء كبار، مثل عبد الوهاب البياتي وأدونيس وخالد علي مصطفى وجبرا إبراهيم جبرا وحسب الشيخ جعفر وغيرهم.
لقد وجد سامي مهدي في بنية وأسلوبٍ، عرفناه لديه من قبل كثيراً، قالباً مناسباً لأفكاره وللقصيدة التي يكتبها، نعني بنية وأسلوب (السؤال)، بل كادت الكثير من قصائد الديوان تأتي كاملةً أسئلةً، وهي عادة أسئلة إذ يفرضها وجودنا أو حياتنا علينا، فإنها في قصيدة سامي مهدي تقودنا أيضاً إلى أسرار هذا الوجود أو هذه الحياة. ولأنها أسئلة وجودٍ، فإن الإجابة عليها غير مضمونة عند الشاعر، شأنه في ذلك شأن أي إنسان، إذا ما أُريد لهذه الأجوبة أن تكون مقنعة وحاسمة:
(من هناك؟)
تساءلتُ،
لكنني لم أجد أحداً داخل البيت،
أو أحداً في الطريق،
لم أجد غير ريح تغني
وصفصافة تترنّح مخمورةً في الظلامْ
وكواكب ترمقها من بعيدٍ
وتومضُ في ألفةٍ وانسجامْ / ص 9
قد نُخدع أحياناً، ونلقى أو نحسّ ما يبدو جواباً:
مَن يكون سواك؟
مَن له مثلُ هذا الحضور المراوغ،
هذا الفضول المريب؟
من يكون سواك؟! / ص 20
فما هذا ومن هذا تحديداً اللذين يحسهما الشاعر؟ ليس من جواب، وهكذا أمر بقية الأسئلة. فالديوان ديوان أسئلة ليس لها أجوبة، وهذا ليس جديداً في تجربة الشاعر، فقد واجهتنا أسئلته التي لم نجد لها غالباً أجوبة في شعره من قبل، وكأنه يريد أن يقول إن هذا ما ليس من شأن الشاعر، بل ليس من شأن الشعر الذي هو لغة الشاعر وأداة تعبيره ولسان حاله، فالشعر مثير أسئلة لا مكمن أجوبة:
كنتُ أسأله
وأُعيد السؤال،
بينما هو يُغمضُ عينيه من بَرَمٍ،
أو يحدّقُ في طبقات الفراغِ
ليَزجُرني بعدها في مَلالْ. / ص 58
إذا ما كان وراء مثل هذه الأسئلة، عند غير سامي مهدي، سائل فرد ومسؤول فرد، فلأنّ الهم الذي وراءها يكون، كما ربما هي هموم الكثير من الشعراء، فردياً. أما أسئلة سامي مهدي فتتعدى غالباً الهمّ الفردي وأحياناً الهم الوطني والقومي– لكنها لا تغادره- إلى الهم الوجودي للإنسان. وهكذا تدخل أسئلته مجال العام والمطلق والإنساني وربما الكوني لتكون، إزاء الغموض والإبهار ومجهولية كل ما يتعلق بذلك، الأنسب لأسئلته. ومن هذا كله تتكون برأينا الرابطة الرئيسة بين قصائد الشاعر، نعني أسئلة الوجود:
أكان هو الموت ما كانَ،
أم ظلمات العماء؟
فكيف، إذن نفذ الضوء
وانسربتْ نغمات الغناء؟!
ومن كان ينفخ في الصورِ قبل الصعود؟ / ص 8
وتتكرر حقيقة أنْ ليس من أجوبة، وليس من جواب ولا من قرار. ليس من شيء إلاّ السؤال الذي يقودنا، على المستوى التاريخي إلى بداية الخليقة عبر انفجارٍ أو نفخةٍ أو صدفة كونية، وعلى مستوى الهوية والتشخيص إلى كنه الإنسان ونوازعه وغرائزه وعواطفه. ولكن يبقى ليس من سبيل إلى معرفة شيء يقيني عن ذلك، ليس إلا الإيمان أو فلسفة الأشياء أو التيه والحيرة، وفي كل الأحوال لا مناص إزاء هذا إلاّ أن تنشأ أزمة. وإذ تبدو هذه الأزمة وكأنها أزمة الشاعر، فإنها، في الواقع ومرة أخرى ، إنما تمثل أزمة الإنسان الحائر بشكل عام، على الأقل كما يعبر عن ذلك سامي مهدي شعرياً:
تدور بي
كأنها رحىً تطحنُ،
لا أعرف ما تطحنْ،
إلاّ أنها تدورْ
والماءُ من حولي،
ولا من شاطئَ يبدو لي،
ولا مرساةَ للوقوف أو منفذَ للعبورْ / ص 72
وهكذا هي حياة الإنسان، حيرةً وربما تيهاً وغموضاً، على الأقل كما يراها إنسان مثل سامي مهدي، ذي خصوصية وفي وضع وظرف خاصين وتحت ضغوط خاصة.
الآخر
إذن، قراءة شعر سامي مهدي، على الأقل في ديوانه الذي بين أيدينا، تضعنا أمام أسئلة ليس لها أجوبة، وتيه وحيرة نجد أنفسنا، شئنا أم أبينا، غارقين فيها، مع مجهولية كل الأشياء والموضوعات، موضوعات الوجود وهواجسه وما تثيره في النفس الإنسانية من أحاسيس، التي يتناولها وهي في الواقع فينا ومن حولنا ونحن نعرف أنْ ليس من شيء أكثر غموضاً للإنسان من الوجود الذي هو فيه. وانطلاقاً من هذا كله ومن طبيعة الشعر، وليس من طبيعة الشعر الحديث فقط، كان الغموض رداءً طبيعياً لشعر الشاعر، وهو غير الإبهام بالطبع. وفي هذا يقول أدونيس: “ليس من الضروري لكي نستمتع بالشعر أن ندرك معناه إدراكا شاملاً، بل لعل مثل هذا الإدراك يفقدنا هذه المتعة، ذلك أن الغموض هو قوام الرغبة بالمعرفة، ولذلك هو قيام الشعر، إلا أن الغموض يفقد هذه الخاصية حين يتحول إلى أحاج وتعميات”([5]). فسامي مهدي يبني قصيدته، إذا جاز لنا أن نقول هذا، انطلاقاً مما ذكرناه عن شعر الشاعر وموضوعاته أولاً ، ثم من طبيعة الشعر الحديث ثانياً. وهنا يجب أن نقول إن من الطريف أن يقترن الغموض بقصيدة سامي مهدي، وربما القصيدة الحديثة بشكل عام، حتى حين تكون الموضوعات شبه عادية وربما أوضح من أن تُجعل غامضة، وليست من موضوعات الوجود الكبرى. فقد صار بديهياً، إذ يتعلق هذا بالشعر عموماً كما قلنا، أن يُقال “يتسم جانب كبير من الشعر العربي الحديث بالغموض”([6])، ولكن ليتعلق هنا أكثر من ذلك بسامي مهدي. فحين يتكلم الشاعر، مثلاً، بشكل شبه صريح عن (الآخر)، فإننا نجد هذا الآخر في ما يشبه المفارقة التي تضفي عليه غموضاً. فهو الغائب الحاضر:
دائماً هو:
يأتي ويمضي
ويمضي ويأتي
ونسألُ عنه وما من مُجيبْ / ص 19
وحتى حين نستطيع أن نمسك ببعض ملامح هذا (الآخر) أو بالأحرى شبحه، في غيابه غالباً وفي حضوره أحياناً، فإننا لا نكاد نضع اليد على هويته كما يُفترض، لماذا؟ نظن لأنه في الحقيقة ليس محدداً إلا بوصفه آخر، ليكون كما تنظر أنت إليه أو كما يكون تجاوبك معه. لكن المفارقة تكون في أن الشاعر، مع هذا، يسعى بجهد مقترن بالأمل إليه:
أتُرى هذا الطريق
ينتهي يوماً إليه؟
أترى ألقاه في خاتمة الرحلةِ
كي أُلقي لديه
بعض أحمالي،
وأحتجُّ عليه؟ / ص 42
بل يبقى (الآخر) على مجهوليته له حتى حين يبلغه، أو يبدو له أو لنا حاضراً، فيرد إلينا عبر الـ(أنت) لا الـ(هو)، إذ يخاطبه الشاعر أو ربما هو يناجيه:
لكني أعلمُ أنّك في نجمٍ ما
أو حجرٍ ما
أو عشبٍ ما
موجودْ
…
فمتى تمنحني شربة ماء،
ومتى تفتح لي الباب الموصودْ
وتريني ما أنا موعودٌ بنداه
وما لستُ بموعود؟ / ص 25
وتبقى المفارقة، حتى حين يبدو وكأن الشاعر يقترب منه، إذ يبقى السؤال: من هو؟ هل هو الخالق؟ قد يبدو هذا صحيحاً لوهلة، لكنه يعود لينفي عن نفسه، أو ينفي الشاعر عنه ذلك، وتحديداً حين تحضر ملامح له تتعارض في بشريتها مع الألوهية، لتعود التساؤلات تترى بين الكلمات والسطور الشعرية، أو في دواخلنا: هل هو الصديق؟ هل هو الحاكم أو السلطة؟ أم هو المخلّص؟ هل هو الذي نفتقده أياً كانت هويته؟ لا ندري، وربما لا يدري الشاعر نفسه حتى حين يبدو على معرفة به، إذ يختفي وتختفي معه هويته ليبدأ حضوره الغائب أو غيابه الحاضر:
ولقد قيلَ: اختفى،
مات في السرِّ،
في ليلةٍ مثل باقي الليالي / ص 59
لعل ذلك مرتبط بتعددية هذا الآخر، انطلاقاً مما يمكن أن نسميه تعددية (الأنا)، أي الشاعر أو القارئ أو المتكلم، أيّاً كان، ضمن معادلة: أنا والآخر. نجد أنفسنا نقف هنا ولا نجازف بالابتعاد عن النص فنؤوّله أكثر مما يحتمل إلا بالحدود التي يتقبلها منطق أنْ يحلّ ذلك إشكالاً.. يُلقي علينا بجواب نحن نتوق إليه، أو أن يفك مغاليق، وأن لا ترفض ذلك مداخل النقد الحديث للنص، خصوصاً مع بقاء سلطة النقد للنص أولاً وللقارئ ثانياً، والوعي بأن النص الإبداعي، ولاسيما الشعري الجديد، لا يقدم أبداً الأشياء على طبق من ذهب.. جاهزةً ومباشَرةً، ولا حتى معبرة عن قصدية المبدع، بل هو يكون مفتوحاً لدخول القارئ بوعيه، وأفق توقعه، ومرجعياته…إلخ. وهنا قد نتفق مع الشاعر نفسه، ولكن لا نخطّئه، حين يقول عن تزاحم السلطات في النقد التطبيقي، في حوار معه: ” “لقد كان النص الإبداعي، وسيظل، هو سيد الموقف في صراع النظريات والمناهج، فهو يحافظ على وجوده الموضوعي خارج كل القراءات… ويبقى هذا التكوين ثابتاً لا يتغير، وتبقى القراءات المتنوعة كلها مجرد نصوص أخرى خاصة بأصحابها، لا تضيف إليه ولا تغيره، وهو موجود معها وبدونها، وهي تقع خارجه في جميع الأحوال”([7]). وفي كل الأحوال، وأيّ السلطات شغّلنا مع نصوص الشاعر، تبقى الحيرة والدوران وربما التيه أو الإبحار، ببوصلات مرة ومن دونها مرة مرات، في عوالم لا تكاد تنجح محاولة للرسو عند مرسى فيها.
تعددية القراءة والنتيجة المشتركة
لأن القراءات المتعددة التي تتعامل مع نصوص بعينها لا بد أن تلتقي مع بعض هنا وهناك، فإن من الطبيعي أن تخرج هذه القراءات، إضافة إلى اختلافاتها، بما هو مشترك فيما بينها. فبرأينا لا يمكن لأية قراءة لديوان “الخطأ الأول”، سواء انطلقنا من النص وخرجنا منه إلى ما نحس أنه يحيلنا إليه، أم بقينا ضمنه، أم بإحالة من أفق توقعنا- على حد تعبير روبرت ياوس- المبني على قراءات سابقة للنصوص نفسها أو لنصوص ضمن الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص الذي بين أيدينا، أم فعلنا ذلك من خلال الإيحاء والتلميح، نقول لا يمكن لأية قراءة إلاّ أن تجد هيمنةً لـ(الخطأ) في ديوان الشاعر. ولكن أي خطأ هو؟ هل هو المقَّدر علينا؟ أم الذي قد نفعله كل يوم؟ أم الذي يفعله أناس معينون؟ أم هو خطأ الإنسان الأول؟. قد يكون أي من تلك صحيحاً تبعاً لكل قراءة، وقد نرى أنه كل ذلك ما دام مرتبطاً بالإنسان ووجوده، وقد عرفنا أن الوجود هو بشكل أو بآخر همّ الشاعر في هذا الديوان، كما هو في جل شعره:
ذلك الفتق كان البدايةَ في كلّ خطْبٍ جليل
أهو الخطأ الأول الأزلي،
أم الخطأ العبقري الجميل؟! / ص 70
هذا يذكرنا برأي بارت الذي ينطوي عليه تعبيره بـ(لذة النص) “يتكون في حرية القارئ هذه لإنتاج المعاني، وبمعنى كتابة النص”([8]). وفي كل الأحوال نتساءل هنا: هل التأكيد على الخطأ يحمل إدانة للإنسان؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف السبيل إذن لتجاوزه؟ يعود السؤال ويتكرر، ولكن ليس من جواب، وربما لكل قارئ أن يجد لنفسه جواباً، ربما لأنه ليس من منجاة ولا مرسى للإنسان مما صار فيه منذ أن كان الخطأ الأول، وكان معه ما كان من تيه وحيرة ووحدة، ولسان حاله يقول:
وحدي في البريةِ
أتقلّبُ بين الوحشةِ والوحشِ
فينهش لحمي الدودْ
وحدي كالعهنِ المنفوش،
ككرات الشوكِ،
تدحرجها الريحُ
إلى أقصى الأخدودْ / ص 25
هذا الإحساس بالوحدة إنْ هو، برأينا، إلا من جنس الأفكار الوجودية: “الإرتماء” و”الحيرة” و”الاغتراب”، لأن إحساس سامي مهدي بالوحدة إنما هو منطلق وجودي إلى حد كبير، يكاد يذكرنا بدرجة ما بتجربة كفاكا الذي كان وضعه الخاص ” كان قد فجر في نفسه الإحساس بالوحدة”([9]). ولكنّ وراء إحساس الشاعر هنا إيماناً مهيمناً بالوجود الإنساني، وكأن كلّ ما عداه، بما في ذلك حتى ما له علاقة بهذا الوجود، مشكوك فيه مع فارق واحد، ولكنه مهم، يفصله عما نعرفه عن الوجوديين، وهو أنه يشك، للوصول إلى الكنه الحقيقة، ولا ينكر كما يفعل الوجودي الكلاسيكي، لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية حين “أخذ الناس إزاء ما صاحبها من غدر وعنف واستخفاف بالمثل والقيم يتشككون في حقيقة تراث الإنسانية الروحي كله”([10]). ولهذا كانت أسئلة الشاعر الكبيرة التي إنْ وجدنا لبعضها أجوبة فإننا لا نستطيع ضمانَ أنْ تكون مقنعة حتى لنا. ومما يُكسب أحاسيس الشاعر، وتبعاً لذلك شعره، خصوصية مضافة تفترق بها عن الأحاسيس الوجودية المعروفة أنها، بالإضافة إلى تعبيرها عن الإنسان المطلق، تعبر عن أحاسيس فرد بعينه، هو سامي مهدي أو العراقي أو العربي. بعبارة إخرى هي نابعة من الإحساس الأول والمطلق ولكنه متقولب بخصوصية سامي مهدي ومن يمثّله شاعراً ومفكراً وإنساناً وعراقياً وعربياً. وهكذا يبرز في شعره لا الإنسان المطلق، بل أيضاً الفرد الذي تَمثَّلَ غالباً عبر درجة من هيمنة لضمير (الأنا) المعبر عن صاحب تجربة خاصة، ربما هي تجربة الإنسان في ظل ظرف خاص وتحت ضغوط خاصة، هي ظرف الحصار وضغوطه. ولهذا فهو، في ما يظهره من عدم السلبية، يفترق مرة أخرى عن الوجودي الكلاسيكي في سلبيته، فيبقي يبحث، وربما يبشر أو يومئ إلى الخلاص الممكن:
أطلعُ من جذوري
أخرجُ من موتي إلى نشوري
أنزعُ عني القشرةَ الأولى
وأرقى صهوةَ الريح مع الطيورِ
هذا أوانُ الصحوةِ العظمى / ص 83
ولعله من هذه الإيجابية تترآى إمكانية أن تنتهي مثل هذه الأحاسيس، وتبعاً لذلك أزمة الشاعر أو بطله أو من يمثله، فكان انتظاره ممرّاً مشروعاً أو مقنعاً ومفهوماُ، عسى أن يُوصله إلى فرج ما، ليتعمق إلى حد أن يصير هو ذاته غاية:
تحت شبّاكِ السماء
واقفاً انتظرُ الرحمةَ
قد أيأسُ منها أو أحار
غير أني قانع بالانتظار
فهو المعنى إذا طال الغيابْ
وهو الكوّة إذا يوصد دوني كلُّ بابْ / ص 7
لقد كان من الطبيعي، إزاء الوحدة والقلق والتأزم عموماً، أنْ يكون البحث، وأن يكون الانتظار أو الفعل، أو الانتظار والفعل. فهل للمأزوم المتوحد إلاّ الانتظار، وربما الفعل بعد انتظار أيضاً؟ ولكن انتظار مَن أو ماذا؟ مرة أخرى ليس من جواب، لسبب بسيط أظن أن الشاعر أراده وعمد إلى تبنيّه، ولكن ربما عِبر لا وعيه، وهو أن القصيدة الحديثة بشكل عام لا تمثل صوت الشاعر أو بطله المقصود فحسب، بل صوته وصوت بطله وصوتي وصوتك وصوت الآخر. بعبارة أخرى إن هذه القصيدة هي نص منفتح وقابل للتعبير عن أي تجربة، فموضوعها هو ليس موضوع فرد بعينه. وعليه إذ يمكن للمنتظِر– بكسر الظاء– في قصائد “الخطأ الأول” أن يكون أي واحد مأزوم، فإن المنتظَر– بفتح الظاء- يكون في النتيجة أي واحد أو أي شيء يحل هذا التأزم، وكأننا في هذا نستذكر المنتظَر (غودو) في مسرحية بيكيت الخالدة “بانتظار غودو”([11]). إن قصيدة سامي مهدي في ذلك تستجيب لأزمتي وأزمتك وأزمات الآخرين، ولكن هذا يجب أن لا يعني، كما قد يبدو، إفراغ الأزمة من هويتها الوجودية تماماً. فحين يكون الانتظار عبر مناجاة للآخر، فإن هذه المناجاة قد تبدو فيه لوهلة وكأنها تُخرج الشاعر من منطلقاته الوجودية، إذ أن حضور الآخر قد يعني إلغاءً لعالم التوحد. لكن الحقيقة هي أن هذا الآخر لا يفعل ذلك، إذ هو يفتقد مادية الحضور الانساني وشيئية الأشياء ليكتسب بذلك حضوراً مثالياً يعني بالضرووة أنْ ليس له من هذا الحضور إلا ما هو في دواخل الشاعر أو إنسان قصيدته. فقد يلبس هذا الآخر لبوس الحبيب أو المفتقَد أو البعيد… ليناقض بذلك توحدات صوت الأنا الوجودي، لكنه يعود دائماً لأنه يكسب حضوره من مثالية ذلك الأنا– الشاعر، فيؤكد صوته المتوحد:
دائماً هو:
نصغي
ونسمعُ منه تلمُّظَ أذيالهِ
وتمطّقَ خُفّيهِ
لكننا لا نرى، حينما نتقَضّى،
سوى أثر باهت في الدروب. / ص 19
بقي أن نقول: إن ذلك كله كان وراء أنْ بدت أجواءُ قصائد الديوان أجواءَ يأسٍ وخوف وحزن وحسرات. وإذ هي تذكرنا، كما قلنا، بالأجواء الوجودية التي لم تقتصر عند حدود الارتماء”، بل إن الوجودية، ومن خلال مبدأ الأنكار والاعتراف فقط بالوجود المتعلق بالإنسان نفسه، ارتكزت على ثلاثة مرتكزات أساسية هي: الحرية، والمسؤولية، والالتزام، وكان من الطبيعي أن ينتج عنها عدة نتائج أو مشاعر خطيرة يحسها الفرد في سلوكه عبر الحياة هي: القلق والهجران واليأس([12])، فإن قصيدة سامي مهدي التي تتظلل جزئياً بمثل هذه الأجواء وتثير مثل تلك المشاعر، تعبر عن نوع من المواجهة لها. فانطلاقاً من لاسلبية الشاعر تأتي محاولته للإفلات منها عبر الأسئلة الباحثة أو غير الباحثة عن أجوبة، والتي أحبها سامي مهدي قالباً وأداةً مضمونية وفكرية وفنية لتكون في النتيجة جزءاً حيوياً من هوية ديوانه “الخطأ الأول” ، كما كانت جزءاً من هوية دواوين سابقة له، بل هي قد تتعدى ذلك، كما لمّحنا من قبل، إلى التبشير بالخلاص والانجلاء([13]):
هبّت الريح أخيراً
وتلاشى ما تبقى من رمادٍ
وانجلى الأفقُ، وراقتْ وأضاءتْ، في المكان
غيمةٌ،
واخضرَّ الزمانْ / ص 84
المصادر والمراجع:
أدونيس: زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ص21.
أديب حسن محمد: ما هي القصيدة الومضة؟، الحوار المتمدن، ع1280، 8/8/2005.
د. إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي الحديث، عالم المعرفة (2)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1998، ص8.
حسن حسن، ترجمةً عن جريدة لومانتييه، جريدة الثورة، دمشق، 17/2/2006.
سامي مهدي: الخطأ الأول، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1999.
سامي مهدي: سلطة النص وسلطة القارئ، النص علامة ثبات والتأويل تعليق، جريدة (الدستور)، الدستور الثقافي، عمّان، 11/1/2008، ص4.
د. صالح هودي: الوعي الشقي، قراءة في البنية العميقة لشعر سامي مهدي، فضاءات، عمّان، 2010، ص11.
غارودي، روجيه: واقعية بلا ضفاف، ترجمة حليم طوسون، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1968، ص147.
ماكوري، جون: الوجودية، ترجمة الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1982، ص277.
د. محمد مندور: الأدب ومذاهبه، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، ص151.
Raman Selden: Practising Theory and Reading Literature an Introduction, Harvester Wheatsheaf, London, 1989, P 113.
[1]) أديب حسن محمد: ما هي القصيدة الومضة؟، الحوار المتمدن، ع1280، 8/8/2005.
[2]) جون ماكوري: الوجودية، ترجمة الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1982، ص277.
[3]) د. صالح هودي: الوعي الشقي، قراءة في البنية العميقة لشعر سامي مهدي، فضاءات، عمّان، 2010، ص11.
[4]) سامي مهدي: الخطأ الأول، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1999.
[5]) أدونيس: زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ص21.
[6]) د. إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي الحديث، عالم المعرفة (2)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1998، ص8.
[7]) سامي مهدي: سلطة النص وسلطة القارئ، النص علامة ثبات والتأويل تعليق، جريدة (الدستور)، الدستور الثقافي، عمّان، 11/1/2008، ص4.
[8]) Raman Selden: Practising Theory and Reading Literature an Introduction, Harvester Wheatsheaf, London, 1989, P 113.
[9]) روجيه غارودي: واقعية بلا ضفاف، ترجمة حليم طوسون، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1968، ص147.
[10]) د. محمد مندور: الأدب ومذاهبه، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، ص151.
[11]) “يصور لنا المبدع الايرلندي صموئيل بيكت شخصياته كيف ينتظرون بعبث ولا مبالاة منقذهم غودو، هذا القادم الذي قضى أبطال بيكت حياتهم يثرثرون في انتظاره، ولكن دون جدوى حيث انتهت المسرحية ولم يأت غودو هذا الذي اختلف حوله النقاد وربما أكثر حول دلالته.. أيكون المنقذ فعلاً.. أم الوهم الذي نتخيله أم الحقيقة التي نتوهمها.. الاتكالية وربما الموت نفسه؟.. المهم وأياً كان غودو هذا، فالذي نتفق عليه جميعاً أن الانتظار قضية أساسية وهامة في حياتنا دون أن تنال حقها من الاهتمام. فكلنا وفي أية لحظة ننتظر شيئا ًما رسالة.. ضيف.. حلول الشتاء… ومرة سئل صموئيل بيكت: من هو غودو؟ فأجاب: لا أعرف عن هذه المسرحية أكثر مما يعرف هذا أو ذاك من الذين يقرؤون المسرحية بيقظة وانتباه.. لا اعرف عن الشخصيات اكثر مما تقوله هي، اكثر مما تفعله وماذا حدث لها ومعها.. لا اعرف من هو غودو ومن يكون؟ لا اعرف حتى إذا كان موجوداً أم غير موجود”. عن جريدة لومانتييه، ترجمة حسن حسن، جريدة الثورة، دمشق، 17/2/2006.
[12]) د. محمد مندور: مصدر سابق، ص160.
[13]) لاحتمال أن تُربط دراستنا، كما ربما ديوان الشاعر، بأوضاع ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، من المفيد أن نشير إلى أن هذه الدراسة تقوم أصلاً على مقالين نُشرا في جريدة (الدستور) الأردينة سنة 2001، مكررين الإشارة إلى أن الديوان مطبوع سنة 1999.