- في أي إتجاه أدبي تصنفين أعمالك؟
- هذا أمر متروك تقديره للنقد والنقاد..لم أتوقف يوماً لأنظَر لأعمالي أو أصنفها ضمن خانة أو مدرسة معينة، ولكن تراكم الكتابة يجعلني أعتقد إنني أقتربت من الواقع جداً دون أن أكون واقعية أو ناقلة فوتوغرافية للواقع لأني دائماً أحتج على الواقع بالحلم الذي أشبهه بغرفة علوية في بيت الواقع..الواقع مادة خام من خلالها أطرح رؤيتي للحياة ونظرتي كيف تكون. والرواية تحديداً هي جدل… وكل جدل هو فلسفة قد تؤدي إلى جعل القارئ يتأمل ويتفاعل ويستنتج رؤية جديدة مغايرة.
- هل تعدين نفسك في مقدمة الواقعين الجدد اليوم اي مايسمى بالواقعية الجديدة في الرواية العربية والعراقية؟
- لاأعرف ماذا تقصدين بالواقعية الجديدة في الرواية العربية والعراقية ؟ لأن الواقعية الجديدة هي مدرسة سينمائية حاولت تقديم الواقع بعفوية وكما هو على طبيعته أي بدون تزويق أو شعارات وقد ازدهرت هذه المدرسة في ايطاليا ثم تبنتها السينما المصرية.. ولكن إذا كنت تقصدين أن المكان الروائي في الواقعية الجديدة هو الذي يصبح محركاً للأحداث أو لإنتاج الحكاية وليس مجرد فضاء يحتوي الشخصيات والأحداث. فنعم كان المكان العراقي حاضراً بقوة في كل ماكتبت.
- ماذا يشكل الحدث التاريخي السياسي بالنسبة اليك هل هو المحرك الأول للكتابة؟
- المحرك الأساس للكتابة هو الزمن…الزمن يمضي بلمح البصر والإنسان يحاول تخليده بشتى الطرق كالعمل الصالح أو الأثر الخالد أو الصورة الفوتغرافية…إلخ والكاتب يحاول بكل قوته الإمساك باللحظة العابرة وتخليدها على الورق…هذا الهم الوجودي قديم قدم الإنسان وقد عبرت عنه ملحمة كلكامش خير تعبير من خلال نصيحة سيدوري لكلكامش بعد يأسه من البحث عن الخلود:
(لكن أنت يا كلكامش دع معدتك تمتلئ. متع نفسك دائماً في الليل والنهار.. إجعل الأفراح في كل يوم..ارقص والعب في الليل والنهار..فلتكن ثيابك نظيفة..إغسل رأسك واسبح في الماء..إنظر محدقاً في الطفل الذي يمسك بيدك..دع زوجتك تتمتع بمعانقتك المستمرة لها، فهكذا هو مصير الرجال الفانين).
ولهذا يمكن القول هناك نسختان من الكاتب ..نسخة تمشي على الأرض وتفكر وتعيش وتكتب ونسخة أخرى تستخف وتخجل وتضيق بكل تلك الأوهام. وهذا هو صراع الكاتب وغيره من الناس مع المصير الفاني للبشر ولكن الكاتب يحاول بل ويصر على إعادة إنتاج هذا الهم الوجودي من خلال الكتابة.
- لماذا تكتب ميسلون هادي عن تاريخ العراق المعاصر؟
- الكاتب إبن زمانه.. والمعاصرة تعني الإنتماء إلى اللحظة التي تعيش فيها الحياة واللحظة التي تعيش فيها الكتابة ، أي أن تكون إبناً للزمان الذي تعيش فيه ونحن الآن في مطلع القرن الواحد والعشرين وقد غطت سطح الكرة الارضية أرتال من المثقفين أصبحت جميعها تنطق بالحكمة وانتشر الحكماء مثل انتشار الحشائش في التراب حتى أن مصطلحاً مثل أنصاف المتعلمين أصبح شتيمة يطلقها المثقفون على غيرهم . والكاتب الذي ينتمي لهذا الزمان يشعر بمسؤوليته عن هذا الإنتماء ويريد أن يقدم شهادته عبر مايكتب ولكن هل يحق له لمجرد انه يمتلك موهبة الكتابة أن يكتب لكي يحكم ويدين أم يملك فقط أن يكتب ما يراه هو لا ما يراه الآخرون والقاريء هو الذي سيتوصل في النهاية الى المعنى والمرامي. يقول الشيخ الأكبر ابن عربي إن الكاتب الأرفع هو من كان مداده نفس قلمه وقلمه نفس اصبعه واصبعه نفس ذاته فيكون هو هو وليس غيره … نعم هذا هو بيت القصيد أن يكون الكاتب هو هو وليس غيره.أي أن يكون إبن بيئته وثقافته وعاداته وتفاصيل حياته اليومية ..ولهذا أكتب عن تاريخ العراق المعاصر لأن العراقي هو جزء من الحياة السياسية شاء أم أبى .
- هل تعد ميسلون هادي كاتبة تكتب عن المراة أم عن الواقع ومالغاية من الكتابة عن الواقع؟ هل لتصحيح التاريخ؟
- الواقع ومن ضمنه المرأة هو أداة لتوصيل رسالة فلسفية إلى القارئ ..ولتصحيح النظرة الى المفاهيم القديمة وجعلها في جدل مع مفاهيم أخرى جديدة. الكتابة هي عاطفة جياشة تجاه الحياة ورغبة في تكرار حدوثها على الورق على نحو آخر فيه قضية ورسالة .هي أيضاً رغبة في إصلاح الكون وجعله جميلا ونظيفا وخال من الأحقاد والكراهية..ببساطة أن الكاتب نوع من البشر يهتم ويعشق الحياة والجمال والحق. وإذا كان الكاتب نوعاً من الكائنات الحية فالكتابة هي لغة هذا النوع …أظن أن البشر كالأشجار فيهم المعمر والعابر والصاخب والعقيم..والكتابة هي أزهار كثيفة لشجرة مثمرة في كل الفصول. كما إن الإنسان لايستطيع تحمل بشاعة الواقع فيمضي إلى إصلاحه بالغناء والرسم والنحت والكتابة بكل أجناسها.
- مامفهوم ميسلون هادي عن الأدب النسوي؟ وهل تصنف نفسها ضمن الأدب النسوي؟
- لو كنت قد سألتني هذا السؤال قبل عشر سنوات لتوترت وثرت وقلت لك بشراسة إن الأدب ليس فانيلات أو جواريبات لكي يقسَّم إلى نسائي ورجالي، وإن الأدب إنساني ومطلق لا يمكن وضعه في مثل هذه الخانات…الخ، ولكني الآن وقد أصبحت أكثر كهولة ونضجاً أقول لك آن الأوان لكي يروى العالم من وجهة نظر امرأة، وعلى الرجال الذي ينزعجون من الاهتمام بالأدب النسوي لمجرد أنه نسوي، أن يعرفوا أن قمع المجتمع للنساء هو سلاح ذو حدين، لأنه سيحجم المرأة ظاهرياً من جهة، ولكنه من جهة أخرى سيطلق طاقاتها الكامنة وإبداعاتها بكل درجاته ومجالاته، وهذا ما يفسر مثلاً ازدياد أعداد النساء المنخرطات بالدراسات العليا مع تراجع الحريات في العراق… إنهن كمستعمرات النمل إذا أغلقت عليها منفذاً وجدتْ الف منفذ ومنفذ للخروج إلى الهواء الطلق…. وإذا صنعت هذا المنفذ روائية أو شاعرة فستستطيع بكثير من الجهد وقليل من الحظ أن تكون ملكة على منصتها الفريدة التي لا يشاركها فيها الرجال…. فطيلة التاريخ ونحن لا نسمع سوى وجهة نظر واحدة هي وجهة نظر الرجل التي في كثير من الأحيان بيّضت الأسود وسوّدت الابيض وغيرت وجه الحقيقة… والآن نشهد ثورة روائية نسوية لتعديل هذا الميل وربما وضع مساره على خطين متوازيين لكي يمشي القطار بشكل صحيح… مع الأسف لا يشعر الرجل بالارتياح لندّية المرأة في هذا المجال كما لا يشعر بالارتياح لهذه النّدية في كل مجالات الحياة. وقد كتبتُ مرة عن هذا الموضوع أقول فيه إن المثقف العربي من النادر أن يقتبس نصاً لامراة أو يستشهد بها عند الحديث عن محطات معينة في الأدب العربي، وكأن في هذا انتقاصاً لرجولته التي لن تتغير معاييرها حتى وإن كان مثقفاً، مع استثناء من يتمتع منهم بحس اخلاقي وثقافي عال بالطبع…
أنا أكتب كإمرأة وأفكر كإمرأة ولكني أتظاهر بأني غير مهتمة بهذا التصنيف… لاأعتبره سلبياً بالتأكيد ولكنه أصبح متوارياً خلف التواقيع …لم يعد الأدب النسوي يعني إنضواء جميع الكاتبات تحت هذا المصطلح النقدي ولكنه يعني إنه منحى في الكتابة.. يمكن أن نقول إن المرأة تملأ الفراغات المهمة التي يتركها الرجل، فهي تعتبرها أكثر أهمية من المتن..متن الغرور والعطش إلى القوة والسلطة والمال، لهذا عندما تكتب المرأة فإنها تعنى بالمشاعر وتنتبه للتفاصيل التي يصعب على الرجل الاحتفاظ بها في ذاكرته بل يضيق بها ويعتبرها (شغل نسوان)… والآن يشهد العالم العربي ثورة غير مسبوقة في مجال الأدب الروائي الذي تكتبه المرأة وعندما يرى ويكتب ويروي هذا الكائن الذي أُغلقت دونه كل النوافذ فيما مضى سيجعلنا نرى العالم مرة جديدة من إتجاه آخر هو إتجاه القلب ، وقد يتضايق بعض الرجال من هيمنة هذه الثورة ويبخسها حقها، دون أن يدرك هذا البعض أن قمعه للمرأة هو الذي جعل منها كائناً ثانوياً. والآن عندما يتحدث هذا الكائن(الثانوي) يتشوق الجميع لمعرفة ماذا يقول او يكتب وكيف يصف العالم من جهة أخرى.
- تستخدم ميسلون هادي بنية الايهام .هل لإن بنية الايهام هي المسافة الواصلة بين الواقع والحلم؟
- لا أقصد ذلك أثناء الكتابة..ولكن يبدو إنه لا يمكن فصل الكتابة عن طبيعة الكاتب…وبطبيعتي أميل إلى أحلام اليقظة كثيراً وقد تعوضني عن مرارة الواقع الذي نعيشه ولهذا تظهر هذه الأحلام في الكتابة على شكل حلم مواز للواقعة …بل وتضببها أحياناً داخل سحابة من اللا يقين.
- لماذا لم تكتب ميسلون هادي بصراحة عن تابوهات السياسة والدين والجنس كما فعلت أحلام مستغانمي وحنان الشيخ وغيرهن.
- لا يمكن الكتابة بشكل مباشر عن كل ذلك .ولكني ناقشت الكثير من القضايا الدينية في (شاي العروس) وفي (العيون السود) التي نشرت في زمن النظام السابق تتعاطف البطلة الرسامة مع شخصية (عبد الكريم قاسم) وترسمه في لوحتها مع باقي الرموز الذين يمثلون صورة عصر كامل أو روزنامة عصر كامل. لربما القارئ الخارجي يعرف أكثر عن هذه الروايات… لأني حاولت تناول الواقع السياسي في كل ماكتبت ولكني راقبت إنعكاساته داخل النفس البشرية، كما في (العالم ناقصا واحد) و(الحدود البرية) و(يواقيت الأرض)…إلخ..ثم تناولته أيضاً عن طريق السخرية وهذا مافعلته في روايتي الأخيرة(حفيد البي بي سي) التي أردت فيها تقديم صورة رقيب مطبوعات من خلال السخرية..وشخصية الجدة في الرواية تمثل الشخصية العراقية إلى حد ما ولكن بطريقة تهكمية فهي تعشق الثورات والانقلابات التي تتردد أخبارها في اذاعة البي بي سي وأيضاً تقلد الملكة اليزابث الثانية في كل تصرفاتها أي إنها لا تفعل الشئ نفسه وإنما شبيه الشئ ..فهي تدعي الرقي و(تتعنطز) بسبب الإحباط الذي تعاني منه وفي الوقت نفسه تعشق الفوضى والحروب والرجال الذين يرتدون الملابس الخاكية. كانت تأمل أن يحدث شئ جيد بعد كل ثورة ولكن لم يكن ليحدث شئ…وهذه التجربة جديدة علي تماماً ولكني أقدمت عليها لأني شعرت إن القارئ قد مل من الفواجع والقهر وأنا أيضاً مللت فأردت أن أنقل الصورة عن طريق الضحك ..لما للسخرية من قدرة على تفكيك الأحقاد والعقد والكراهية.
10- لاتذكرين الزمن بصراحة خاصة زمن الحروب مثلا تقولين حرب الأربعين يوما أو الزمن مابين الحصار والستلايت ؟لماذا لاتصرحين بالزمن مثلا تقولين حرب1990 أو حرب 2003 بينما المكان عندك واضح والبيت دائما يكون محورالاحداث او المحلة او الزقاق بعكس الزمن؟
- وهل الرواية مقالة صحفية لكي تصرح بشكل مباشر عما تريد قوله؟ إذا كنت أنت قد فهمت القصد فالقارئ أيضاً سيفهم. وأعتقد إنه يريد أن يفهم بهذا الشكل لأن الكتابة الإبداعية تحد لكل ما هو ساكن وثابت وقار ..سواء من حيث الأفكار أو اللغة أو وجهات النظر..وإذا كنت تقصدين بالزمن هو التاريخ فأنا أقصد بالزمن هو ما يتركه من أثر بعد أن يمضي بلمح البصر. وعندما يبلغ الإنسان سن الخمسين أو نحوه فإنه يعبره محاطاً بكوكبة من الأشباح والأموات أكبر عديداً من ثلة الأحياء الذين يحيطون به بعد أن يتناقص الأقرباء من الآباء والأجداد والأعمام والعمات والأخوال والخالات، وبعد ذلك من الأصدقاء البعيدين والجيران، لتصل السلسلة إلى المقربين وربما الأخوة والأخوات مع وجود أماكن أخرى شاغرة للأخبار المتواترة التي تنقلها الموبايلات والستالايتات وأعمدة الصحف المختلفة…ما يعنيني من الزمن هو الأثر وليس الرقم. وقدمت في (الحدود البرية) و(العالم ناقصاً واحد) و(العيون السود) و(نبوءة فرعون)…إلخ وفي أكثر القصص القصيرة التي كتبتها ..هذه الزمن ككائن يتحرك وليس كرقم ليس إلا.