أدب الداخل وأدب الخارج

أدب الداخل وأدب الخارج

د. نجم عبدالله كاظم
لم يعد ممكناً في الحديث عن الأدب العراقي خلال العقد الماضي وربما العقدين الماضيين تجنب التطرق لما صار يعرف بأدب الداخل ، والمقصود به أدب العراقيين في داخل الوطن، وأدب الخارج، والمقصود به أدب العراقيين في خارج الوطن. وليس هذا بالأمر الغريب أو غير الاعتيادي بعد ما صار لأدب الخارج تحديداً من ثقل هو في الواقع من ثقل الأدباء الذين هاجررا مختارين أو مجبرين إلى مختلف بقاع المعمورة بدءاً بالنصف الثاني من السبعينيات بشكل خاص، ومروراً بالثمانينيات ، ووصولاً إلى التسعينات التي كانت كثافة الهجرة وتخطيها الأسباب السياسية إلى الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي أفرزها الحصار على لعراق وراء أن صار الأدب العراقي المهجري أو أدب الخارج، كما قلنا، ظاهرة لم يعد بالإمكان لنقد الأدب العراقي ودراسته الموضوعيين تجاوزه. المهم هنا أن هذه الظاهرة، وإضافة إلى ما فرضته من ضرورة دراسة الأدب بالخارج والداخل، قد أفرزت ما يشبه التنافس، وربما الصراع بين هذين (الأدبين) ورجالاتهما، وبين من يتحمس لهذا ولذاك منهما من القراء، بل الدارسين والنقاد، انطلاقاً مما بشبه محاولة الاستئثار بالهوية العراقية، بمعنى أن يدعي كل منهما ومن متحمسيهما بتمثيله للعراق والأدب العراقي. والواقع أن هذا قد تمثل في أدباء الخارج بشكل خاص حين تنكروا أو كادوا لأدب الداخل وأدبائه. وكثيراً ما يفتقد تناول هذه القضية إلى الموضوعية، حتى حين يصدر عن النقاد أحياناً، وهو ما شكل عيباً ومأخذاً كبيرا ًعلى النقد والنقاد الذين يفعلون ذلك. من هنا تأتي هذه الشهادة القصيرة لتدّعي هذه الموضوعية المفقودة يدعمها زعم صاحبها ذلك وكونه قد انتمى بشكل أو بآخر عبر ممارسته للنقد إلى الفئتين، نعنى أدباء الداخل وأدباء الخارج. فإذا ما اعتبرنا أن أدب الخارج قد تشكل ثقله حقيقة خلال فترة الحصار وتحديداً من انتهاء الحرب الأمريكية الأولى على العراق في آذار 1991 وحتى بدء الحرب الأمريكية الثانية عليه في آذار 2003، من دون أن نهوّن من أهمية ما سبق ذلك بالطبع، فإن كاتب هذه الشهادة قد عاش ومارس النقد خلال هذه الفترة التي استمرت اثنتي عشرة سنة مناصفة بين الداخل- من آذار 1991 إلى آذار 1997– والخارج– من آذار 1997 إلى آذار 2003.
وابتداءً نشير إلى أنه لصحيح ما يقال من أن العراق إذ مر بما يشبه الانقطاع عن العالم وعلومه وثقافاته وآدابه خلال فترة الحصار، فإنه غيّب عن أدبائه ونقاده ضمن ما غيّبه، أدب العراقيين في الخارج مما قد يقلل من موضوعية حكم ونقد أدباء الداخل ونقاده على أدب الخارج ومواقفهم منه، خاصة في ظل غياب الديمقراطية وتكريس مركزية الثقافة والقراءة والكتابة الموجهة كما كانت تمارسها مؤسسات الدولة الثقافية والتعلمية والتربوية التي قد تفرض بحدود ما يمكنها المواقف. ولكن يجب أن نعرف أيضاً أن الحصار قد غيب في المقابل أدب الداخل عن أدباء ونقاد الخارج مما يعرض موضوعية هؤلاء الأدباء والنقاد في حكمهم ونقدهم ومواقفهم تجاه أدب الداخل، خصوصاً وأنهم غالباً ما تبنوا مواقف الرفض والمعارضة المطلقة والمسبقة والمجردة لذلك الأدب. وهكذا رحنا نرى عصبية كل من الفريقين لجماعته التي أفرزت قبلية من نوع جديد ربما لم يشهدها الأدب العراقي من قبل. ومرة ثانية غالباً ما تمثلت قوة مثل هذه القبلية في المواقف في أهل الخارج الذين لم يعودوا بعد سنوات من النفي يرون من خير وإبداع وتجويد في الأدب العراقي إلا في أدبهمم ولدى أدبائهم. وهنا يجب أن لا نستغرب أن تكون مثل هذه الخلافات وما ولدته من عصبية أو قبلية في الأدب وعند الأدباء، فمن الطريف أن نشير إلى أنها قد سبقت الأدباء إلى الناس عموماً، فكان هناك أناس الداخل وأناس الخارج، لكنها برزت في الفئات التي كان من الطبيعي أن تكون في ظل الحصار الأكثر تأثراً وجدانياً به وبظروفه، نعني فئات المثقفين عموماً، فكانت فعلاً مع أساتذة الجامعة، وعموم حملة الشهادات العليا ، والفنانين، والأدباء. فالذي صار في الخارج ما عاد بعد وقت ليس بالقصير يرى في الداخل إلا الضعيف أو المحدود أو العديم الكفاءة ، بينما الذي بقي في الداخل كثيراً ما أخذ ينظر إلى الذي ترك بلده وتوطن في مواطن الأغراب على أنه فاقد لجزء من انتمائه للوطن، أو مستسلم لأغراء الدولار، وربما مرتبط بشكل أو بآخر للأجنبي، مما يفقده القدرة على تمثيل العراق والعراقيين والكفاءة والمقدرة العراقيتين والإبداع العراقي. ومن الواضح أن كلا الفريقين مخطئ بهذه الدرجة أو تلك، خاصة حين يعمم، وهو التعميم الذي يسهل رصده. فيتضح الخطأ هنا من خلال ما يمكن رؤيته من مسيرة الحياة في العراق في كل الميادين خلال فترة الحصار مع كل الصعوبات التي صنعها هذا الحصار وهو ما عكسه تعلقاً بالثقافة والأدب الانتاج الأدبي الذي استطاع أن يصمد ويثبت كماً ونوعاً. ويتضح الخطأ في الجانب الآخر في ما صار لأدب الخارج وأدبائه من وجود حقيقي كان نوعياًّ أكثر منه كمياً، ولعل ما تركه المثقف العراقي عموماً في الكثير من الحيوات الثقافية العربية، عبر المنتديات والجمعيات والدوريات والنتاجات أوضح من أن ينكره موضوعي.
والآن لعلنا ونحن ننظر إلى ما أفرزته هذه الظاهرة نجد أنفسنا شئنا أم لم نشأ في موضع الحكم الذي لم يعد مستساغاً في النقد، وعليه لنتجاوزه مباشرة ونقول ببساطة إن كلا فئتي الأدب والأدباء إنما يكوّنان أدباً واحداً هو الأدب العراقي.. وهو أدب همومه واحدة وتجريباته واحدة وموضوعاته واحدة. أما الاختلاف في تناول بعض تلك الموضوعات والهموم، وهي كثيراً ما تكون هموماً مشتركة وتجارب وتجريبات مشتركة وموضوعات مشتركة، فلا يجعل منهما أدبين أو في موضع التنافس على ارتداء معطف الهوية العراقية. فإذا ما أردنا أن نتلبس لبوساً طفولية عبر مقارنة ثقل كل من الجانبين، وتحديداً خلال فترة بروز ظاهرة أدب الداخل وأدب الخارج، نعني فترة التسعينات تحديداً، فإنه ليكون واضحاً جداً أننا لن نخرج بنتيجة بأفضلية أي منهما على الآخر. ننظر إلى الخارج فنرى الجواهري والبياتي وسعدي يوسف والنواب وعدنان الصايغ والتكرلي وعالية ممدوح وحسب الشيخ جعفر وفاضل العزاوي مثلاً، وننظر إلى الداخل فنرى يوسف الصايغ وسامي مهدي وجبرا إبراهيم جبرا ورعد عبدالقادر وعبد الخالق الركابي ولطفية الدليمي وميسلون هادي ومحمد خضير ومحيي الدين زنكنه مثلاً. وإذا كان لنا أن ننظر إلى النتاج نفسه فإن النتيجة لن تكون بمختلفة، ولكن لعل في النظر إلى طبيعة كل من نتاجي الفئتين وما يتهم به أدباء كل منهما ونقادهما أدب الأخرى ما يستحق وقفة قصيرة هنا.
ننطلق هنا من أبرز اتهام وجهه أدباء إحدى الفئتين لأدب الفئة الأخرى، نعني اتهام أدباء الخارج للأدب في الداخل بأنه ذو اتجاه واحد، ومطالبة أدبائه ضمناً بأن يكتبوا ضد النظام ليكونوا أدباء بحق. فهنا نرى أن من طريف ما يفرزه هذا الاتهام هو أنه يضع أدباء الخارج من حيث لا يعرفون في نفس الموقع الذي يتهمون ادباء الداخل بأنهم فيه، إذ هم يوجهون أيضاً الأدب من خارجه. فكما أن أدب الداخل، وفقاً لأدباء الخارج لا يمثل إلا اتجاهاً واحداً هو الذي يماشي النظام، أو على الأقل لا يتعارض معه، فإن أدب الخارج، وربما وفقاً لما يراه أدباء الداخل الذين هم ليسوا جميعاً بالضرورة أدباء السلطة كما قد يرى البعض، لا يمثل إلا اتجاهاً واحداً أيضاً وهو الذي يُفترض أن يتعارض مع النظام. إضافة إلى ذلك فإن هذا الموقف غير النقدي يختزل الأدب من حيث التزامه ومعالجاته بشكل مشوه إلى شيء نرى الأدب في حقيقته أكبر وأوسع منه بكثير. النقطة الأخرى التي نود التعرض إليها تعلقاً بهذا هي أن الأدب في الداخل استطاع أن يتجاوز الكثير من القيود التي فرضها النظام، ونحن نعرف أن الأدب ليس كالتعليم والتربية والإعلام والعمل الوظيفي، بمعنى أنه يستطيع أن يفلت من جلّ القيود التي تقيده انطلاقاً من تابوهات السياسة والمجتمع والدين… وما إلى ذلك. فمع الاعتراف بالطبع بان تلك القيود تترك تأثيراتها السلبية بدرجات مختلفة، فإنها أبداً لا تستطيع أن تلغي ، وتعدم، وتنفي، وتصادر بشكل مطلق كما تفعل مع الناس وميادينهم الأخرى التي ذكرنا.. فهو قائم أساساً، كما هو معروف، على التعبير غير المباشر، وعلى الإيماءة، وربما على الرمز والترميز والتورية واستلهام التاريخ والتراث الشعبي، وما إلى ذلك مما استطاع أدباء الداخل فعلاً أن يوظفوه كما فعل أدباء معروفون غير محسوبين على السلطة، بل ربما حتى بعض من يُحسبون عليها.
najmaldyni@yahoo.com

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

رعب كافكوي في قصص يحيى جواد

رعب كافكوي في قصص يحيى جوادقراءة لمجموعة “الرعب والرجال” في ضوء المنهج النفسيمنشورةأ د. نجم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *