أجمل حكاية في العالم – عقيل عبد الحسين

التشديد على تكذيب المرويات

عقيل عبد الحسين

جريدة العالم

10-6-2015

سأقترح للحديث عن رواية ميسلون هادي (أجمل حكاية في العالم) تسمية (التشديد السردي). وهو التأكيد على حادثة معينة بإعادة سردها حرفيا من دون تغيير، أي باللفظ نفسه، كما في الحادثة التي بدأت بها الرواية، وهي: ((صعد إليهاالحافلة- رجل في نهاية الأربعينيات من عمره، لم أكن أعرف أن اسمه حسن، وكان يبدو لي في غاية الأدب […] ليس الأدب الجم هو ما يميّزه، وإنما وسامة في الوجه، وأناقة في الملبس والكلام وطريقة الطعام.. قيل لديوجين: لماذا تأكل في السوق؟ فقال: لأني جعت في السوق… وهذا ما حصل للجار المؤدب الذي نعس في الحافلة فنام في الحافلة […] لم يصدر منه لا غطيط ولا شخير لا حس ولا خبر)) (ص5-6). ثم يشدد السرد على الحادثة نفسها باللفظ، ومن دون أي تغيير، بأن يكررها كما هي في الصفحة الأخيرة من الرواية (ص192)، لتكون الحادثة المكررة في أول الرواية وآخرها أشبه بالحواف التي تنطلق منها، وتعود إليها، الاختلافات السردية.
وتنتمي التشديدات السردية إلى زمن السرد الذي يختصر عند ميسلون هادي إلى ساعات، هي في روايتها (أجمل حكاية في العالم) الساعات التي تستغرقها الرحلة السياحية التي يذهب فيها مؤلف الروايات دافع فكري في رحلة راحة من الكتابة والتفكير إلى شمال العراق.
والتشديد السردي يؤكد حدي السرد أي بدايته ونهايته، ويسهم في تأكيد كذب الأحداث الداخلية الاسترجاعية الطابع، سواء التي يعلن الروائي دافع أنها كاذبة أم التي يذكرها حسن المؤدب الشخص لذي جلس في المقعد المجاور لمؤلف الروايات، وغفا ليستيقظ ويحكي لدافع قصة فرارهم من معسكرهم في شمال العراق بعد حرب الخليج الثانية، وتحرير الأكراد لمناطقهم، وقرارهم- وهم مجموعة من المجندين، سيشكلون فصول الرواية – الفرار إلى خارج العراق، ثم عدولهم عن الهجرة والعودة إلى بغداد.
ومن خلال التشديد السردي الذي يأتي في نهاية الرواية يظهر أن حسن المؤدب لم يحك شيئا لدافع ولم يستيقظ أصلا، أو يغيّر وضعه، وأن حكايته، وما وقع لأصدقائه ياسين القجغجغي وفيصل الفيلسوف ومأمون الشاعر وناصر المغني وفردريك المسيحي، إنما هي من افتراضات أو تخيّلات دافع فكري لا أكثر.
يقابل التشديد الذي يظهر على مستوى زمن السرد التخفف الكبير من صدقية المرويات على مستوى الحوادث المسترجعة التي تعود إلى أزمان سابقة على زمن السرد، وإلى الفترة من حرب الخليج الثانية إلى العام 2012، واقتراح حوادث وأفعال ونهايات للشخصيات التي يدور حولها الحكي، والتصريح بذلك الاختلاق، فمؤلف الروايات دافع فكري يقول لحسن المؤدب الجالس جواره في باص الرحلة إنه سيكتب قصص الشخصيات التي ذكر أسماءها له. ولا يمانع حسن في ذلك، فهو لا يعرف شيئا عن تفاصيل حياة الشخصيات ولا عن مصائرها. وما المانع، ما دام دافع مؤلف روايات، أن يكتب رواية لعله يريد أن يتسلى، ولعله يريد أن يعبر عن أفكار معينة، كما سيفعل مثلا حين يخترع حكاية لفيصل الفيلسوف ويختار له الموت برصاصة من رجل أراد الانتقام منه؛ لأنه قرر في لحظة استثنائية أن يبلغ عن بيت جاره المغني الذي أصبح وكرا للرذيلة. وهي لحظة استثنائية لأن فيصل مشغول بالطبيعة وبالأفكار، ولا يهتم بالواقع، فهو فيلسوف، وهو يعاني من التكرار والثبات، ولا يتبنى موقفا محددا من شيء. والمرة الوحيدة التي يقرر فيها أن يكون صاحب موقف يدفع ثمن ذلك.
وهذا- ربما!- استغلال من دافع للحكاية، وتوجيه لها إلى جهة إدانة الأشخاص النظريين والمنعزلين عن الواقع، ومطالبتهم بأن تكون لحياتهم جدوى ولموتهم معنى. وهو لا يعبر عن حقيقة فيصل وطبيعته، كما يقول حسن المؤدب، الذي اقترح أسماء الشخصيات وصفاتها الرئيسة، ففيصل رجل يحب الطبيعة والتأمل والغناء، ولكنه لا يمكن أن يكون بهذه الصورة التي رسمتها له. انت قتلته! هذا ما يقوله حسن المؤدب، غاضبا ومعترضا على قسوة دافع في التعامل مع شخصية فيصل. والتشديد الذي يظهر في زمن السرد ضروري للتلقي فهو نوع من العقد السردي مع المتلقي يُبرم بصورة غير مباشرة من خلال التكرار التلفظي الذي يسعى إلى إثبات وهمية الشخصيات والأحداث داخل العالم الروائي ليؤكد على حق الراوي والرواية في مناقشة المرويات التقليدية، أو المستقرة، واقتراح مرويات بديلة هي بدورها، ومن ضعفها المعلن، أو تهافتها الصريح، تشكل نقطة إعادة حكي ثانية وثالثة ورابعة وهكذا الى ما لا نهاية.. لتنتهي إلى إزاحة القداسة المحتملة عن أية مرويات.
وإذا اتفقنا، في إطار الرواية على الأقل، على الحق في إعادة الروي، ودنيوية المرويات، فلن يعود ضارا تبني المرويات مواقف مسبقة كتلك التي قامت عليها قصة فيصل الفيلسوف في رواية دافع فكري؛ لأنها تظل أي القصة، قابلة للتأمل والمراجعة والرفض مثلما عبر عن ذلك صراحة حسن المؤدب.
ألا يُعدّ التوقف عن ازدراء المحمولات التقيمية التي تنطوي عليها المرويات، تقدما في العرض السردي لموضوعة تكذيب المرويات على اختلافها، وضرورة إضعافها، الذي يظهر في عدد من الروايات العراقية التي كُتبت في العقد الأخير؟ لأن ازدراء المحمولات ذاك يعني تأجيل عودتها لا أكثر، ويعني صعودها لاحقا، فما نتعامى عنه أو نهمله في الكتابة والتفكير إنما نترك له أن ينمو ويزدهر بدون رقابة في الظل ليعود أقوى. ذلك ما علمتنا إياه التجربة الثقافية والسياسية والاجتماعية العربية المعاصرة التي باغتتنا بثورات دينية، لا ثورات مدنية على غرار التي يحلم بها المثقفون منذ سنين.
وواحدة من سمات التشديد في زمن السرد أنه يؤكد على عنصر التأمل والمراجعة بوصفه واحدا من أهم أدوار الرواية ووظائفها؛ فالسرد ينفصل زمنيا عن زمن المرويات، ويعلن انفصاله عن الحوادث. والتأمل يبنى على عزل زمن السرد عن زمن الحوادث المسترجعة التي تعود لشخصيات الرواية، وعلى تأكيد نسبة الأحداث إلى شخصية غير المتصدرة للتأليف كشخصية دافع فكري في هذه الرواية، وعلى تأكيد أن دور الراوي إنما هو ابتكار المرويات واختلاقها ومعاينة ما يرشح عنها من احتمالات فكرية وثقافية، وجعلها موضوعا للمراجعة وإعادة الكتابة والرواية.
ويحسن أن أشير في هذا السياق إلى أن واحدة من ميزات منجز ميسلون هادي الروائي هو التأكيد على مرويات الشخصيات، فقسم أساسي من الروية، لا في حجمه، وإنما في تأثيره على منطق السرد وانتظامه، يبنى على المرويات التي تمرّ من خلال شخصية من شخصيات الرواية، وتمثّل تصوراتها، أو تبنيها لحوادث تعبر عن قيّم جمعية. والمثال الواضح على ذلك الجدة (صبيحة) في رواية (زينب وماري وياسمين) التي تروي معاناة زينب مع زوجها وفي حياتها كله،ا فهي فصلية فرت بها الأم من قريتها الى بغداد لتقع في أسر زوج سكير. والجدة تسمي زينب (المظلومة)، وتروي وقائع ظلمها لابنتها ياسمين. وزينب لا تحكي قصتها فهي صامتة وباكية، ولا ياسمين الراوية تفعل، أي أنها لا تحكي قصة أمها كما لا تحكي قصتها الخاصة، ولكنها تختبر صدق مرويات الجدة على ما تعيشه من أحداث، يساعدها في ذلك عدم انتسابها الحقيقي إلى زينب، فهي ليست ابنتها الحقيقة، وإنما ابنة عائلة مسيحية استبدلت مع ابنتهم الأصلية ياسمين بالخطأ في المستشفى. وبذا تكون مؤهلة للتنقل بين العائلتين، ولاختبار مرويات الجدة حول ظلم المرأة في مجتعاتنا بنفسها، لتكون هي أي ياسمين، أقدر على انتهاج سبيلها بنفسها، فبعد أن يفشل زواجها ممن تحب، إذ تجده رجلا لا يختلف عن غيره في التعامل مع المرأة، ترفض أن تكون تكرارا لزينب، تقبل بالظلم، بوصفها برهانا وامتدادا للمرويات ذاتها. ولذا تختار أن تبدأ حياتها من جديد صحبة ابنتها التي تستردها من مصح المصابين بالتوحد في المشهد الأخير من الرواية.
في رواية (أجمل حكاية في العالم) تخطو ميسلون هادي خطوة أخرى باتجاه التكذيب الصريح للمرويات، أي تكذيبها بالمرويات- هذا إذا اتفقنا على أنها في تجربتها السابقة (زينب وماري وياسمين) عملت على تكذيبها بالفعل وهو يحتاج إلى تأويل- مقترحة التخفف من أثر المرويات على حياتنا وراهننا، أيا كان ذلك الأثر، مشيرة إلى أن أجمل حكاية ليست تلك التي تنتظم على مرويات الآخرين، ولكن تلك التي تنتظم على مروياتنا التي يجب أن تكون افتراضية ونِسبية ولَعِبية ومفيدة في التأمل والنقد والمراجعة وإثراء التجربة، تجربة الكتابة والقراءة والحياة

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداء.

ميسلون هادئ……غزارة الإنتاج وبراعة الأداءمن الأحداث الفارقة والمائزة في حياتي،هو اللقاء بالروائية المبدعة ميسلون هادي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *